محمود الريماوي
رغم أن الحرب الوحشية على غزّة لم تضع
أوزارها بعد، مع استمرار القصف اليومي، وتتالي التهديدات من بنيامين نتنياهو ووزير
حربه يوآف غالانت باجتياح رفح، وقد انضمّ إليهما الوسطي المزعوم بني غانتس، رغم ذلك،
ومع أن الأولوية في هذه الظروف تكمن في فرض وقف إطلاق النار، وتكثيف دخول المساعدات
إلى القطاع، إلا أن بعضاً من ملامح "اليوم التالي" بدأت تلوح في الأفق وحتى
على الأرض، في سباق مع الزمن لترجمة مقولة "الغد يبدأ اليوم". وليست فكرة
إقامة ميناء بحري بعيدة عن السيناريوهات المُراد تطبيقها على القطاع، إذ من شأن إنشاء
هذا الميناء أن يجعل البحر منفذاً شبه وحيد للقطاع في مقبل الأيام، وبما يحدّ من فرص
تشغيل معبر رفح شبه المشلول حالياً. وواقع الحال يخبرنا أن فكرة الميناء اقترحها نتنياهو
على الرئيس جو بايدن، وأن يطرح متزعّم الحرب الوحشية هذه الفكرة، فلن يكون رائدُه في
هذا سوى أن تتساوق فكرته هذه أو مشروعه هذا مع أهداف حربه بتدمير جميع مظاهر الحياة
ومواردها في القطاع، والسماح بعدئذ بنمط حياة وإدارة أحوال يتمتع فيها المحتل بفُرص
السيطرة المباشرة على شرايين الحياة الاقتصادية وضمن أجندة إخضاع مبرمجة تستند إلى
تداعيات البطش الحربي الشامل. وقد سبق لياسر عرفات أن سعى، أواسط التسعينيات، إلى إنشاء
ميناء في غزّة، وكذلك إنشاء مطار، وأحبط الاحتلال المشروعيْن في المهد وبمعرفة الحليف
الأميركي ورضاه. يريد نتنياهو، ومعه حكومته العنصرية ومجلس حربه الفاشي، البرهنة على
أن أهل غزة لن ينعموا بالقدر اليسير من فرص الحياة مستقبلاً إلا عبر منافذ ووسائط إسرائيلية
وبالتنسيق الكامل أو الجزئي مع واشنطن، ومن خلال إدارة محلية ترضى عنها تل أبيب وتحت
رقابة هذه الأخيرة.
وفيما ظلّ معبر رفح منفذا لدخول الأفراد
وخروجهم، لا يحتاج المرء إلى خيال واسع كي يضع في الحسبان الاحتمال المرجّح بجعل الميناء
نافذة للهجرة والتهجير، مع افتقاد أسباب الحياة للغالبية الغالبة من أبناء القطاع.
وفي ظرفٍ ممتدٍّ لن يتوقّف فيه المعتدي عن اقتراف مزيدٍ من اعتداءاته، حتى لو جرى التوصل
إلى هدنة أسابيع أو أشهر. ويسترعي الانتباه أن واشنطن لا تعرض أي تصوّر لتشغيل الميناء
باستثناء أن شركة خاصة سوف تتولى في البدء أعمال المناولة، وأن الميناء سيكون مؤقتاً،
مع التغافل المتعمّد عن إسناد أي دور للطرف الدولي الموثوق، وهو الأمم المتحدة ووهيئاتها
ووكالاتها، وحتى مع استبعاد السلطة الفلسطينية التي تزعم واشنطن أنها ترغب في رؤيتها
تدير القطاع وتحكمه. وهكذا، ينشط مشروع الميناء الذي بُدئ به بالتوازي مع مواصلة حرب
نتنياهو ــ بايدن، بما يجعل منه مشروعا في خدمة أهداف الحرب، أو على الأقل لا يتعارض
مع أهداف تلك الحرب التدميرية، وللردّ عليه، لا بد من عمل جبار متكامل وخلاق، بعضُه
تطوّعي، لتسهيل حياة أبناء القطاع.
الملمح الآخر الذي لا يقل أهمية لتشكيل
صورة اليوم التالي ما ذكرته مصادر إسرائيلية أن مخابرات السلطة الفلسطينية "بدأت
بناء قوة في جنوب القطاع". ومع أخذ هذا التسريب بالقدر اللازم من الحذر والاحتراز
نظراً إلى هوّية من قام بالتسريب، علاوة على أن بؤس أوضاع النازحين واستمرار الاعتداءات
الإسرائيلية بغير توقّف، لا يوفران فرصة لنشاطٍ مثل هذا محفوفٍ بالمحاذير وغير قابل
للاحتفاظ به قيد الكتمان، على أن الاحتلال يرغب حقاً في وجود أمني محدود ووظيفي للسلطة،
ولكن بغير وجود سياسي لها، وهو ما عبّر عنه زعيم المعارضة يئير لبيد، الذي لا يقلّ
تطرّفاً وعنصرية عن نتنياهو. وكان من اللافت أنه بعد مضي يومين على نشر الخبر، لم تعقّب
مصادر السلطة عليه، ولكأن الخبر يتعلق بمسألة هامشية و"روتينية". وهو ما
يثير الشكوك بالفعل، بل وينشر جواً من التطيّر عما يجرى حبكه في غرف مظلمة هنا وهناك.
واول المحاذير وأخطرها تهيئة الأجواء لنشوب نزاع أهلي في هذا الظرف الأليم والحرج،
بما يمثل خدمة مجانية للاحتلال إذا صحّ وجود هذا السيناريو الأمني. وقد تزامن هذا التطوّر
مع نشر تقارير صحافية مسهبة عن مسيرة السلطة ونزع أية صفة وطنية عنها، وتصويرها أنها
بقضّها وقضيضها، ومن "ساسها إلى راسها"، مجرّد أداة للاحتلال، علما أن السلطة
تضمّ في إهابها عدة أحزاب وفصائل وطنية، بما يفاقم من محاذير نزاع أهلي مُبكر وانتحاري
قد يؤدّي، لا سمح الله، إلى صوملة القطاع، وبدفعٍ من الاحتلال وتغذية منه في المقام
الأول، وربما بدفعٍ من أطرافٍ خارجية أيضاً.
والفيصل في التعامل مع هذه التحدّيات
التمسك بقراءة صحيحة تفيد بأن الكل الفلسطيني مستهدف، وأن الخطر الداهم يحيق بالشعب
والأرض أولاً وقبل المنظمات والفصائل، وأن الظرف الحالي يتطلب التمسّك بالوحدة الوطنية
قولاً وفعلاً، أياً كانت الخلافات والاختلافات، وهو ما تم التلاقي بشأنه في لقاء موسكو
أواخر الشهر الماضي (فبراير/ آذار)، الذي ضمّ طيفاً واسعاً من الفصائل والأحزاب، وسادتْه
أجواء إيجابية كما أجمع على ذلك المشاركون فيه. ورغم أن الاجتماع لم يُتوّج بخطة عمل،
إلا أنه بات مفهوما أن ثمة التقاء واسعاً على تشكيل حكومة وفاق وطني، حتى لو كانت حكومة
خبراء (تكنوقراط)، وإذا قُيّض لهذه الحكومة غير الفصائلية أن ترى النور، فلن تكون أمامها
مهامّ جسيمة في التعامل مع الآثار المتشعبة والثقيلة للكارثة في غزّة، وكذلك مع الأوضاع
المتعسّرة في الضفّة الغربية، وبالذات في محافظات شمال الضفة، وفي جو سياسي محموم لا
يتخلى فيه الاحتلال عن مشروع صنع نكبة ثانية.
ولمواجهة هذه الأخطار، لا بديل مستقبلاً
عن وجود السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا في غزّة، ولا بديل أمام السلطة غير أن
تتشبث بمحدّدات الوفاق الوطني، وأن تعمل على اكتساب ثقة شعبها، وأن تأخذ بموجبات العمل
الجماعي مع التوافق على تخيّر صيغة مؤاتية له، وبانتظار إجراء انتخابات عامة ورئاسية،
ما أن يُفرغ من المهام العاجلة، بمداواة الجراح النازفة، الجسدية والنفسية، لأبناء
غزّة والضفة الغربية.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء
الوادرة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".