غازي دحمان
تلوح في الأفق نذر أيام صعبة على السوريين في علاقاتهم مع
تركيا، سواء منهم اللاجئون، أو هياكل المعارضة، السياسية والعسكرية، التي تتخذ من تركيا
مقرّا لها، أو التي تقع تحت إشرافها المباشر، وتتولى إدارة مناطق شمال غرب سورية، وذلك
على وقع الانزياحات التي بدأت تشهدها السياسة التركية. ويحصل هذا التحوّل انعكاسا لديناميكيتين
في السياسة التركية: إعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية لتركيا بناء على إعادة تقييم
للبيئة الدولية، بفرصها ومخاطرها. وإعادة تموقع تركيا استراتيجيا، في ظل متغيرات دولية
حادّة بما تتضمنه من ملامح تشكّل جديدة للنظام الدولي.
يمكن القول إن الاستجابة التركية لهذه المعطيات الجديدة اتخذت
نمطين، استدراكي: الهدف منه إصلاح السياسات التي اتُّخذت في سياق التطورات التي شهدها
الإقليم في العقد السابق، وأدّت إلى نتائج ذات أبعاد جيوسياسية خطيرة على تركيا وصلت
إلى حد عزلها إقليميا، وقبل ذلك محاولة الانقلاب سنة 2016، ونمط استباقي: الهدف منه
وضع تركيا في مكانٍ مؤثر يمنحها القدرة لأن تكون فاعلا مهما في التحكّم في اتجاهات
الأحداث، ضمن قوس جيوسياسي واسع من الشرق الأوسط إلى القوقاز والبلقان. ويحتاج نجاح
هذه التحولات إلى مراعاة التوازنات الحالية في البيئات المحيطة، فضلا عن التعاطي بواقعية
مع أوزان اللاعبين حسب فعاليتهم وتأثيراتهم، وتغيير فلسفة السياسة للتساوق مع هذه التحولات،
واستكمالا لذلك، إيجاد الأدوات القادرة على إدارة اللعبة السياسية الخارجية في بيئة
صراعية متشابكة ومعقّدة.
يفسّر ذلك صعود دور المستوى الأمني التركي بدرجة كبيرة، وإدارته
علاقات تركيا الخارجية، والتي يبدو أن المستوى السياسي، المثقل بحمولات أيديولوجية
وطموحات سياسية ذات بعد ماضوي، عجز عن فهم اللحظة الدولية ومواكبتها، أو على الأقل،
لم يدرك كنه السياق السياسي الدولي، وربما لم يستطع التكيّف والتغير في اللحظة التي
أصبحت المخاطر تفوق الفرص، وبالتالي العجز عن مواجهة التحدّيات التي بدأت بالتكاثر
والتعقّد وانسداد أفق حلها.
لم يكن ممكنا تفكيك هذه التعقيدات إلا من خلال دبلوماسية
"الأبواب الخلفية" التي اتبعتها الأجهزة الأمنية التركية في إدارتها علاقاتها
مع المحيط الإقليمي، والتي استطاعت من خلالها إعادة صيانة شبكة العلاقات الإقليمية
وترشيقها، ضمن عملية مساومات معقّدة تخللتها تنازلات ضرورية هنا وهناك، وإعادة صياغة
لبعض المواقف السياسية السابقة.
ولم يكن ذلك انقلابا على المستوى السياسي التركي، بل يمكن
الجزم إن المستويين، السياسي والأمني، في تركيا، هما من اللون السياسي نفسه، بل بتفويض
من صانع القرار التركي، إذ بعد الإغلاقات التي تسبّبت بها التضاربات في التوجهات والسياسات
مع الأطراف الإقليمية، كان لا بد من البحث عن مفاتيح يمكن من خلالها فتح الأبواب المغلقة
بأقل قدر من الخسائر. ومن الواضح أن تفويض الأجهزة الأمنية بذلك تضمّن صلاحيات مطلقة،
وهذا ما يُستدل عليه من هامش الحرية الذي يتمتع به هاكان فيدان، رئيس الاستخبارات التركية.
ما علاقة ذلك بالسوريين؟ تشي التغيرات الجارية في السياسات
التركية تجاه النظام والمعارضة، والتي تُطبق من خلالها القواعد التي ذكرناها، بأنها
من صناعة المستوى الأمني بدرجةٍ كبيرة، ويدلّل على ذلك تغير مناظير الرؤية لطرفي الصراع
في سورية، والتي بدأت تبتعد بشكل صريح عن المحدّدات المعروفة للسياسة التركية في المرحلة
السابقة. والإشكالية في هذا الوضع أن طريقة مقاربة المستوى الأمني الملف السوري ستكون
مختلفة، من خلال النظر إلى الملف من زوايا أمنية تضع بعين الاعتبار ثلاث قضايا أساسية:
حماية الأمن القومي التركي، تحييد المهددات الأمنية، وتوسيع هامش المناورة، وذلك كله
من خلال آليات ذات طابع أمني صرف، لا تترك للاعتبارات السياسية أي تأثيراتٍ ذات شأن.
وفق ذلك، لم يعد للاعتبارات الأيديولوجية، التي ربطت المعارضة
السورية بالفاعل التركي، أي وزن وقيمة في قرارات السياسة التركية في المرحلة اللاحقة،
من خلال دمج الملف السوري في إطار المشكلات الأمنية التي يجب حلها، ويبدو أن الرئيس
أردوغان حيّد نفسه عن هذا الملف، أو على الأقل ينفذ التوصيات التي يقترحها عليه هذا
المستوى، لضمان تحقيق النجاح، والمتمثل هنا بالتخلص من أعباء الملف السوري، أو تحويل
المخاطر التي انطوى عليها إلى فرص مستقبلية.
ويتضح من السلوك السياسي التركي أن وجود السوريين في تركيا
بات يهدّد مصائر النخبة التركية الحاكمة، من خلال تأثيره المباشر على نسب التصويت في
الانتخابات المقبلة، وبالتالي، التقييم الأمني لذلك أن هذا الوجود هو بمثابة خطر، يجب
التعامل معه بهذه الصفة، وتحييد الاعتبارات العاطفية، وبالتالي، ستجرى ترجمة التقييم
بشكل صريح في مخرجات السياسة التركية، والقائمة على الترحيل الكثيف للسوريين والتضييق
عليهم، وسنرى في المرحلة المقبلة تصعيداَ لهذه الإجراءات، نظرا إلى اقتراب موعد الانتخابات
التركية. وينطبق الأمر ذاته على المعارضة، وخصوصا إذا رفضت الاندماج في هياكل النظام
العسكرية، أو القبول بما تقدّمه روسيا في هذا المجال للمستوى السياسي في المعارضة،
إذ يبدو أن أنقرة وموسكو توصلتا إلى صيغ معينة للحل السياسي في سورية، وسيجرى طرحها
علنيا في المرحلة المقبلة.
باتت السياسة التركية إلى حد بعيد خاضعة لتقديرات المستوى
الأمني ورؤاه، وسينعكس ذلك بدرجة كبيرة على الملف السوري، وعلى المعارضة واللاجئين
السوريين، الذين يمرّون اليوم بأصعب مراحل علاقاتهم مع أنقرة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".