طارق ترشيشي
سال حبر كثير وسيسيل أكثر فأكثر بعد في تفسير «اتفاق بكين»
بين الرياض وطهران والدوافع التي أملَتهُ، وتداعياته على لبنان والمنطقة الغارقة في
أزمات ملتهبة منذ عشرات السنين. فهذا الاتفاق ينعقد بين بلدين لكل منهما ثقله الكبير
في العالمين العربي والإسلامي وعلى الساحة الدولية عموماً، ولطالما تنازعا على ساحة
المنطقة في حروب مباشرة وغير مباشرة منذ حرب الخليج الأولى وصولاً الى حرب اليمن وما
بينهما في العراق وسوريا وغيرهما. ولذلك، فإنّ هذا الاتفاق بينهما لا بد أن يُدخِل
المنطقة في مرحلة جديدة ومختلفة تماماً عما مضى.
يروي أحد السياسيين لمجموعة من أصدقائه في معرض قراءته لـ«اتفاق
بكين» والأسباب الموجبة التي بُني عليها، أنّ اتفاق قمة حصل بين الولايات المتحدة الأميركية
والصين قبل خمس سنوات يعطي الدولة الصينية نفط الخليج العربي وإيران، في مقابل إعطاء
نفط البحر المتوسط وغازه برا وبحرا لأوروبا على قاعدة أن الولايات المتحدة الأميركية
لم تعد في حاجة إلى هذين النفطين والغازين.
وإن صح وجود مثل هذا الاتفاق الأميركي، فذلك يعني أن الاتفاق
السعودي ـ الإيراني برعاية بكين المباشرة هو الإيذان بدخول الصين بقوة إلى الخليج اقتصاديا
ونفطيا وسياسيا، خصوصا أنّ لديها اتفاقات اقتصادية كبيرة مع الرياض وطهران، وسيكون
لها اتفاقات مماثلة وأكبر معهما لاحقاً وكذلك مع العراق وبقية دول الخليج. وحتى تتمكن
من ذلك كان لا بد لها من أن ترعى الاتفاق على تطبيع العلاقات السعودية ـ الإيرانية
لأنّ السعودية وإيران هما الدولتان الأكبر والأغنى والأقوى في تلك المنطقة التي بات
غازها ونفطها حصتها بموجب «اتفاق القمة» الذي تحدث عنه ذلك السياسي. إلا أنّ ما سيؤكد
هذا الأمر أو ينفيه سيكون مدى فعالية الرعاية الصينية وتأثيرها على الجانبين الإيراني
والسعودي لكي ينفّذا الاتفاق بحذافيره بحيث يترجمانه عملياً على الأرض وخصوصا على صعيد
عدم التدخل في شؤون دول المنطقة، والذي كان سبب كل الازمات والمشكلات التي تعيشها منذ
أربعين عاما وحتى الآن.
وفي اعتقاد قطب سياسي أن الجانبين السعودي والإيراني جادّان
في التزام ما اتفقا عليه لأنّ لهما مصلحة مشتركة في أن يسود الاستقرار في الخليج والمنطقة
عموماً فكلاهما قوة صاعدة اقتصاديا واقليميا ودوليا، ومن مصلحتهما أن ينفذا هذا الاتفاق
بما يؤمن البيئة الآمنة للمشاريع التي يعملان على تنفيذها لتحقيق ذلك الصعود الاقتصادي،
وطبعاً فإنّ مثل هذه البيئة لا تتأمّن إلا من خلال إنهاء النزاعات الدائرة في المنطقة
من اليمن الى لبنان مروراً بالعراق وسوريا.
وفي رأي هذا القطب أنّ قوة هذا الاتفاق من عدمها سيكون في
الإمكان تلمّسها من خلال ما سيؤول إليه مصير الازمات السائدة في المنطقة، ففي حال صيرورتها
إلى الانفراج فإنّ ذلك سيدخل المنطقة في مرحلة هادئة، وأول مؤشر إلى ذلك سيكون مستقبل
الوضع في اليمن حيث كانت تسود توقعات متفائلة بانتهاء الحرب اليمنية منذ اشهر في ضوء
المفاوضات الجارية بين الرياض وحركة «انصارالله» الحوثية، فإن توقفت هذه الحرب قريباً
فإنها ستكون المدماك الأساسي لمبنى الاستقرار الذي يهدف «اتفاق بكين» إليه.
والواقع أن هناك بعض المؤشرات على هذا الأمر، وأبرزها توقّف
الحملات الاعلامية بين الجانبين مباشرة أو عبر حلفائهما وكذلك من خلال الاعتدال السريع
الذي اتّسم به الخطاب السياسي في الرياض وطهران وعلى كل الساحات المتأثرة بهما، وطغيان
اللغة الإيجابية عن الاتفاق عبر التصريحات والمواقف التي صدرت وستصدر عن المسؤولين
في البلدين وحلفائهما. فيما صدر من طهران موقف يتحدث عن تحرّك لتطوير العلاقات مع مملكة
البحرين التي كانت الأحداث التي شهدتها أحد أبرز عناوين الخلافات والنزاعات التي تسببت
بها العلاقة المأزومة في حينه بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران.
وأكثر من ذلك صدرت عن المملكة العربية السعودية وتصدر عنها
مواقف تتمسّك بالاتفاق وتؤكد الالتزام بتنفيذه، لأنها تريد إنهاء الأزمات في المنطقة
لكي تتفرغ إلى استكمال تنفيذ «رؤية المملكة 2030» التي من شأنها أن تجعلها قوى اقتصادية
اقليمية وعالمية كبرى بما يجعل من الشرق الأوسط «أوروبا الجديدة» التي تحدث عنها ولي
العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في احد المنتديات الاقتصادية الخليجية الآتي، حيث
قال يومها: «أنا اعتقد أنّ أوروبا الجديدة هي الشرق الأوسط، المملكة العربية السعودية
في السنوات الخمس المقبلة ستكون مختلفة تماماً، البحرين ستكون مختلفة تماماً، الكويت
وحتى قطر على خلافنا معها ستكون مختلفة تماماً بعد السنوات الخمس المقبلة. الإمارات،
عمان، لبنان، الأردن، مصر، العراق والفرص التي لديه، إذا نجحنا في السنوات الخمس المقبلة
سوف تلتحق بنا دول أكثر وسوف يكون الشرق الأوسط النهضة المقبلة في العالم إن شاء الله،
هذه حرب السعوديين، هذه حربي التي أخوضها شخصياً، ولا أريد أن أفارق الحياة إلّا وأرى
الشرق الأوسط في مقدمة العالم، واعتقد ان هذا الامر سيتحقق مئة في المئة».
وفي رأي متابعين لشؤون المنطقة ان الشرق الاوسط حتى يكون
«أوروبا الجديدة»، حسبما قال ولي العهد السعودي، فهو ملحوظ في «رؤية المملكة 30» وان
تحقيقه يفرض إخراجه من النزاعات التي يشهدها في وضعه الحالي، واولى الخطوات الى ذلك
لا بد أن تكون تطبيع العلاقات وتطويرها بين أبرز قوتين فيه، أي السعودية وايران، ما
يعني أن «اتفاق بكين» هو الخطوة الأساسية على الطريق إلى هذا الشرق الأوسط الجديد.
اما الخطوة الثانية فينتظر أن تكون إنهاء حرب اليمن، وتباعاً إنهاء أزمات لبنان وسوريا
والعراق في ظل توقعات في أن تكون القمة العربية الدورية، المقرر انعقادها في الرياض
خلال ايار المقبل، تاريخية من حيث الحضور فيها والقرارات التي ستتخذها تتويجاً للمرحلة
وللانجازات المنتظر أن يحققها «اتفاق بكين».
المصدر: الجمهورية.
الآراء الوادرة
في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".