الإسلاميون والقضية الفلسطينية
تموز 26, 2019

 

الإسلاميون والقضية الفلسطينية

(الموقف والخيارات)

د. وائل نجم *

تمهيد

منذ أن صمتت المدافع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى معلنة انتصار دول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) على دول المحور (ألمانيا وحلفائها)، شرعت الدولتان المنتصرتان في تنفيذ بنود الاتفاق السرّي المعروف باتفاق سايكس – بيكو ( [1] )وتقاسمتا المنطقة العربية، لا سيّما بلاد الشام. لقد وقعت سورية ولبنان تحت سيطرة فرنسا، ووقعت فلسطين والأردن والعراق تحت سيطرة بريطانيا. ومنذ اللحظة الأولى لهذه السيطرة شرعت بريطانيا في تنفيذ وعدها لليهود بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين، والمعروف بوعد بلفور ( [2] ).

أخذت الوكالات اليهودية، وبرعاية بريطانية كاملة، تنظيم رحلات تسفير وتهجير اليهود من مناطق سكنهم وتواجدهم في أوروبا وغيرها إلى فلسطين، على اعتبار أنها أرض بل شعب، وبزعم أن الشعب اليهودي له تاريخ طويل في هذه الأرض.

أيقن سكان الأرض وأصحابها الأصليون من الفلسطينيين خطورة هذا المشروع منذ اللحظة الأولى، فتصدّوا له بما امتلكوا من قوة وإمكانات، كما تصدّوا للاحتلال البريطاني، إلاّ أن ضعف إمكاناتهم قياساً بالإمكانات التي توفّرت لإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين، فضلاً عن رعاية الاحتلال البريطاني الكاملة لهذا المشروع، جعل القادمين من آفاق الأرض يتمكنون من فلسطين ويقيمون فوق أرضها دولتهم، ويعلنون هذه الدولة في العام 1948.

لقد دخلت العديد من الحكومات العربية في تلك المرحلة على خط مواجهة هذا المشروع، وهذه الدولة الوليدة، ولكن أسباباً كثيرة، ليس هنا محل ذكرها، حالت دون إفشال هذا المشروع، ومنْع قيام هذه الدولة، ومع تلك الفترة وما سبقها بدأت معاناة جديدة يعيشها الشعب الفلسطيني جراء المجازر البشعة التي ارتكبتها العصابات اليهودية المتطرفة، وهو ما جعل قسماً كبيراً من هذا الشعب يتشتت في أماكن عديدة. وفي تلك المرحلة سيطرت دولة "إسرائيل" الوليدة على قسم من فلسطين ومنها القسم الغربي من مدينة القدس.

ثم بعد أقلّ من عشرين عاماً شنّت هذه الدولة حرباً جديدة تمكّنت فيها من احتلال القسم المتبقي من فلسطين فضلاً عن أجزاء من شبه جزيرة سيناء المصرية، والجولان السوري، وكان ذلك عام 1967، وقد أدّى ذلك إلى موجات هجرة فلسطينية جديدة، بينما ظلّت الوكالات اليهودية تعمل على استقدام اليهود من شتى بقاع الأرض ومنْحهم حقوقاً ليست لهم في فلسطين.

وأمام هذا الواقع المستجد، اتجه الفلسطينيون إلى تشكيل مجموعات مسلّحة وفدائية لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، سواء من داخل الأراضي الأردنية، أو اللبنانية، أو حتى داخل الأراضي الفلسطينية المحلتة. كما بدأ الفلسطينيون يعملون على تنظيم صفوفهم ووضع خطط وبارمج لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي، لأنهم أدركوا أن المعركة طويلة وليست سهلة، فكانت ولادة منظمة التحرير الفلسطينية ( [3] ) .

لقد استطاعت المنظمة أن تحوّل مسألة تهجير الشعب الفلسطيني من مأساة إنسانية تنتظر المساعدات من وكالة الأنروا أو غيرها، إلى قضية سياسية تتمحور حول حقوق ومطالب الشعب الفلسطيني بحق العودة وتقرير المصير ورفض الاحتلال. ومن ذلك الحين بدأنا نسمع عن القضية الفلسطينية.

لقد تحوّلت القضية الفلسطينية من قضية تعني الشعب الفلسطيني إلى قضية تعني العرب والمسلمين جميعاً، لاعتبارات كثيرة وعديدة سيأتي الحديث عنها، فضلاً عن قضية تعني المقهورين والمستضعفين في كل أنحاء العالم، فتضامن معها الكثير من الشعوب والرموز على مستوى العالم، وما يزال.

 

أولا : التحدّيات التي تواجه القضية الفلسطينية حاضراً

هناك مجموعة تحدّيات تواجه القضية الفلسطينية حالياً وهي :

-       تحدّيات فلسطينية داخلية:

أبرز هذه التحدّيات الداخلية الفلسطينية هي مسألة إنهاء الانقسام الفلسطيني، وإنجاز المصالحة الوطنية الشاملة.

وتعود أسباب الانقسام إلى اختلاف الرؤى بين القوى والفصائل الفلسطينية، ففي حين تبنّت منظمة التحرير الفلسطينية، ومن خلفها حركة فتح، خيار التسوية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي على قاعدة اتفاقات "أوسلو" ( [4] )الذي أتاح إقامة سلطة حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة. تبنّت فصائل فلسطينية أخرى، أبرزها حركة حماس، خيار المقاومة المسلّحة. وقد أدّى هذا الاختلاف حول الخيارات إلى صدام بين السلطة وحماس في قطاع غزة عندما لجأت حماس وذراعها العسكري، كتائب الشهيد عز الدين القسّام، إلى الحسم العسكري في غزة بعدما لمست توجهاً من السلطة لمنعها من مواجهة الاحتلال، واعتقال أفرادها والزجّ بهم في السجون، ووضعت ذلك في إطار الدفاع عن النفس ( [5] ) ، وقد جاء ذلك بعد فوز حماس الكاسح في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وتشكيل حكومة برئاسة إسماعيل هنيّة.

وأمام سيطرة حماس وحكومة هنيّة على غزّة، بدأ الشرخ يزداد مع السلطة، خاصة بعد رحيل زعيمها التاريخي ياسر عرفات. وهكذا بدا المشهد الفلسطيني منقسماً سياسياً وجغرافياً، فالسطلة صاحبة مشروع التسوية، ظلّت تسيطر على أجزاء من الضفة الغربية بالتنسيق مع قوات الاحتلال، وحماس وفصائل المقاومة الأخرى تسيطر على غزّة وهي تحمل مشروع المقاومة.

وقد بُذِلت الكثير من المحاولات والمساعي ومن أكثر من طرف فلسطيني أو عربي لرأب الصدع الفلسطيني وإتمام المصالحة وإنهاء الانقسام، إلاّ أنه حتى الساعة لم يتم ذلك. وظلّ التحدّي الأساسي الذي يواجه القضية الفلسطينية، لأن من شأن إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة تعزيز مواجهة الاحتلال وإعادة الحياة إلى القضية.

كما هناك على المستوى الداخلي الفلسطيني تحدّي وحدة المشروع الفلسطيني، فضلاً عن الحفاظ على الشعب الفلسطيني في الشتات من الذوبان.

-       تحدّيات مواجهة الاحتلال:

منذ أن سيطر الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي العربية الفلسطينية، خاصة تلك التي احتلها عام 1967، شرع في عملية تهويد لتلك الأراضي، خاصة في مدينة القدس الشريف عبر طمس المعالم العربية الاسلامية للمدينة، وعبر توسيع الاستطيان من خلال بناء وتشريع المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، فضلاً عن عمليات الحصار والتضييق التي تجري سواء على أهالي مدينة القدس من أجل خفض نسبة السكان العرب فيها، أو من خلال الممارسات التي يقوم بها "المستوطنون" في الضفة الغربية من أجل التضييق على السكان الأصليين بهدف ترحيلهم، أو من خلال محاصرة قطاع غزّة، وتُعتبر هذه تحدّيات مهمة تستهدف القضية الفلسطينية، وتهدف إلى تصفيتها.

فضلاً عن ذلك فقد استهدف الاحتلال الإسرائيلي فلسطينيي أراضي عام 1948 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، فاعتبرهم خطراً ديمغرافياً يتهدّد وجوده، ولذلك أقرّ قانون الدولة القومية لليهود ( [6] ) ، وأراد بذلك حرمان بقية من يحمل الجنسية الإسرائيلية من الحقوق السياسية التي كان يتمتع بها كجزء من حربه لتصفية القضية الفلسطينية.

وكما قلنا فإن هذه التحدّيات تُعدّ من التحدّيات الكبيرة والخطيرة التي تهدّد القضية الفلسطينية.

-       تحدّيات خارجية:

كما أن القضية الفلسطينية حظيت مؤخراً بدعم بعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية، وحتى داخل الأمم المتحدة، إلاّ أنها ظلّ تحدّي انحياز الإدارات الأمريكية المتعاقبة لصالح الكيان المحتل، فضلاً عن انخراط الإدارة الأمريكية الأخيرة برئاسة دونالد ترمب، بشكل مباشر في تصفية القضية الفلسطينية، سواء من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، أو من خلال قرار نقل السفارة الأمريكية في هذا الكيان إلى القدس المحتلة، أو من خلال تخلّي الولايات المتحدة الأمريكية عن مسؤوليتها وعن دفْع المتوجبات عليها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأنروا" كجزء من الإجهاز على حق العودة، والتخلّص من اللاجئين الفلسطينيين عبر توطينهم في أماكن تواجدهم.

ولم تستطع السلطة الفلسطينية، ولا منظمة التحرير الفلسطينية أن تبقي على موقف الإدارة الأمريكية خارج إطار الإنحياز، على الرغم من المحاولات والتنازلات العديدة التي قدّمتها السلطة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عدم وقْف التنسيق الأمني مع كيان الاحتلال على الرغم من أنه بات مطلباً شعبياً فلسطينياً.

أما بالنسبة للدول الغربية الأخرى، لا سيّما الأوروبية، فهي على الرغم من موقفها الذي يُعدّ أكثر اعتدالاً من الموقف الأمريكي، إلاّ أنها أقلّ فعالية وتأثيراً في المشهد الفلسطيني.

وقد يكون هناك تحدّيات أخرى غير تلك التي جرى الحديث عنها، اقلّ شأناً وتأثيراً، أو ربما قد تشكّل جزءاً من هذه التحدّيات التي تواجه القضية الفلسطينية ولا بدّ من التعامل معها.

ثانياً : الفاعلون في القضية الفلسطينية.

هناك عدد من الفاعلين والمؤثرين بشكل مباشر أو غير مباشر بالقضية الفلسطينية وبنسب مختلفة ومتفاوتة بالنظر إلى حجم ودور كل من هؤلاء الفاعلين، وهم ينقسمون إلى مجموعات :

1 – الفاعلون الفلسطينيون :

هناك مجموعات من الفاعلين الفلسطينيين المؤثرين بالقضية الفلسطينية بشكل أساسي، وأبرز هؤلاء الفاعلين :

-       السلطة الفلسطينية : ومن خلفها حركة فتح، خاصة وأن السلطة تسيطر على جزء من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بموجب اتفاقيات "أوسلو" سيطرة بعضها إداري، وبعضها الآخر إداري وأمني، وتنسق بشكل كبير مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ أن مصدر تمويلها بشكل رئيسي يأتي عن طريق الاحتلال. كما تؤثّر السلطة بشكل كبير في القرار الفلسلطيني لأنها تحظى باعتراف المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وحتى كيان الإحتلال الإسرائيلي، إلاّ أنها تصادر القرار السياسي والمفترض أن يكون بموجب الاتفاقات المعقودة مع الاحتلال ملك منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بموجب قرارات الجامعة العربية.

وكما أسلفنا في وقت سابق، فإن السلطة الفلسطينية، ومن ورائها حركة فتح، اتخذت واعتمدت خيار التسوية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، متسلّحة بالموقف الدولي الداعم لقيام حل للقضية الفلسطينية على قاعدة إقامة دولتين على أرض فلسطين، واحدة إسرائيلية وأخرى فلسطينية مع حفظ حق العودة.

-       حركة حماس وفصائل فلسطينية مقاومة: وتمثّل حماس ومعها حركة الجهاد الإسلامي التيار الإسلامي الفلسطيني، وتعتبر أن خيار الجهاد والمقاومة هو الخيار الأجدى لتحرير فلسطين، وإعادة أهلها إليها، على اعتبار أن خيار التسوية لم يوصل إلى نتيجة، وأثبت فشله بعد ربع قرن. وتحتفظ حماس بسيطرة كاملة على قطاع غزة، وقد خاضت عدة حروب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي تمكّنت فيها من تسطير أروع أنواع الصمود، وفيما تنتهج حماس نهجاً أكثر "براغماتية" في التعامل مع الاحتلال تجلّى أكثر من مرّة في إدارة مفاوضات غير مباشرة لإطلاق سراح الأسرى أو وقف النار، كما أبدت استعداداً للتوقيع على اتفاق هدنة طويلة بمقدار الاستعداد للمواجهة، تنتهج حركة الجهاد الإسلامي نهجاً أكثر تشدداً  حيال الاحتلال، ولا تعترف الحركتان بشرعيته، وتُعدّان من الفاعلين الأساسيين في القرار الفلسطيني والقضية الفلسطينية، خاصة في ظل امتلاك السلاح من ناحية، واتساع القاعدة الشعبية للحركتين من ناحية ثانية. إلا أن أيّاً من الحركتين ليست في منظمة التحرير.

-       مجموعات ضغط فلسطينية حقوقية وإعلامية منتشرة داخل فلسطين وخارجها، ولكنها أقل تأثيراً  وفعالية في المشهد الفلسطيني من حركتي فتح وحماس.

2-الفاعلون العرب :

بالنظر إلى أن فلسطين قضية العرب والمسلمين، وبالنظر إلى وقوع فلسطين في جوار عربي له مصالحه ودوره، بل هو يتأثر ويؤثر في المشهد الفلسطيني، فإن أبرز الفاعلين العرب في المشهد الفلسطيني حالياً هم :

-       مصر، بالنظر إلى دورها التاريخي في الوطن العربي، ونظراً لوقوعها على حدود قطاع غزة، فضلاً عن حدود فلسطين التاريخية، ونظراً لتداخل المصالح والتهديدات أيضاً، وقد كان لمصر دور وتأثير في الواقع والقرار الفلسطيني أيام الملكية، وفي ظل الحكم الجمهوري حتى أنها رعت أكثر من مرة مفاوضات لوقف النار أو محاولات لإتمام المصالحة الفلسطينية.

-       سورية، وقد كانت مؤثرة عندما كانت تحتضن بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، إلاّ أنها فقدت هذا التأثير والفعالية بشكل كبير بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، غير أن تأثير المشهد الفلسطيني بها ظلّ قائماً بالنظر إلى ما وصلت إليه الأوضاع، خاصة وأن النظرة الإسرائيلية إلى تحديد نتائج الثورة، وموقفها الداعي إلى الحفاظ على النظام ( [7] )، انعكس تأثيراً على المشهد الفلسطيني.

-       الأردن، باعتبار الموقع الجغرافي والتاريخي، خاصة فيما يتصل بالوصاية على الأملاك الوقفية في القدس، إلاّ أن التأثير الأردني ليس كبيراً.

-       حزب الله اللبناني، خاصة وأنه يملك قدرات صاروخية باتت تهدّد كيان الاحتلال، وله حدود بريّة، هي الحدود اللبنانية مع هذا الكيان، ويحتضن بطريقة من الطرق، بعض فصائل المقاومة التي كانت محتضنة من قبل سورية.

-       وهناك أيضاً دول عربية أخرى أقلّ فعالية في المشهد الفلسطيني قياساً بالفاعلين الآخرين، ومنها السعودية وقطر والسودان والجزائر  و ...

3-الفاعلون الآخرون :

إضافة إلى الفاعلين الفلسطينيين والعرب في المشهد الفلسطيني، هناك فاعلون آخرون لهم تأثيرهم ودورهم ومنهم :

-       الولايات المتحدة الأمريكية، على اعتبار دورها في رعاية ودعم كيان الاحتلال والتصدّي لكل المساعي الفلسطينية لإلحاق أي أذى بكيان الاحتلال في المنظمات الدولية، كما وأنها تؤمّن الدعم المباشر وغير المباشر للسلطة الفلسطينية، وترعى بشكل مباشر وغير مباشر التنسيق الأمني بين السلطة وكيان الاحتلال.

-       إيران، وقد رفعت منذ اللحظة الأولى لثورة الإمام الخميني شعار دعم الشعب الفلسطيني، وقد دعمت إيران فعلاً فصائل مقاومة في غزّة، وربما في الضفة الغربية، وبالتالي فهي مؤثرة في المشهد الفلسطيني بغض النظر عن النسبة، ولعلّ في العلاقة المهمّة القائمة مع حزب الله اللبناني ما يجعلها أيضاً أكثر تأثيراً، خاصة وأنها تعتبر نفسها باتت على حدود كيان الاحتلال.

-       دول الاتحاد الأوروبي، وهم دوماً كانوا يدعمون الحلّ القائم على التسوية، كما يدعمون السلطة الفلسطينية بالمال والخبرات، ولهم دور وتأثير في المشهد الفلسطيني، فضلاً عن رؤيتهم للمنطقة.

-       هناك أيضاً روسيا وتركيا ولكن هاتين الدولتين أقلّ تأثيراً من غيرهما في المشهد الفلسطيني، وإن كانت تركيا قد بذلت بعض المحاولات خلال السنوات الماضية للتأثير كما في دعوة تركيا لقمة إسلامية في اسطنبول على أثر إعلان الولايات المتحدة الأمريكية القدس عاصمة لـ "إسرائيل". وكما في محاولات كسر الحصار عن قطاع غزة عبر أسطول الحرية.

 

ثالثاً : الإسلاميون وفلسطين :

أولاً، لا بدّ من التذكير أن فلسطين كأرض مقدسة ومباركة تحتل حيّزاً كبيراً  ومهمّاً من اهتمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله (r)، وبالتالي فإن الإسلاميين ينظرون إلى فلسطين انطلاقاً من هذا الاعتبار، ولكن إضافة إلى ذلك، فإن الإسلاميين المعروفين بالحركية وحمل هموم الأمة، وعلى اختلاف مواقع انتشارهم، ومنذ اليوم الأول لإطلاق عملهم، أكدوا في أدبياتهم على انتماء فلسطين أرضاً وشعباً إلى الأمة، وهنا نتحدث عن عدة أمور ومسائل:

-       فلسطين في فكر الإسلاميين، ولقد أكد الإسلاميون في مختلف الأقطار العربية والإسلامية، وداخل فلسطين، على قدسية فلسطين، وعلى تمسّكهم بها كجزء من تراب الأمة.

لقد أكد الإخوان المسلمون على ذلك في أدبياتهم منذ اللحظة الأولى لتأسيس الجماعة حيث قال المؤسس الشيخ حسن البنّا: "فلسطين تحتل من نفوسنا موضعاً روحياً وقدسياً فوق المعنى الوطني المجرد، إذ تهبّ علينا منها نسمات بيت المقدس المباركة" ، كما أرسل الشيخ البنّا رسالة إلى الشيخ محمد أمين الحسيني مؤيداً وداعماً للمؤتمر الإسلامي الأول الذي نظّمه الشيخ الحسيني في بيت المقدس ما بين 8/12/1932 إلى 18/12/ 1932 ( [8] ).

وفي تفكير الإخوان المسلمين، باعتبارهم العامود الفقري للإسلاميين، بالنظر إلى انتشارهم فكرياً وتنظيمياً، تُعتبر فلسطين نصّاً دينياً مقدساً لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله، لذا كان الموقف السياسي للإسلاميين عادة ما كان يتأثّر بالاعتبار الديني والنظرة إلى فلسطين.

-       فلسطين في تاريخ الإسلاميين، وكما أشرنا فإن الشيخ حسن البنّا اعتبر أن لفلسطين مكانة مقدسة في النفوس، فقد أرسل وفداً من قيادات الإخوان إلى فلسطين بين 3 – 6 آب 1935 لدعم المجاهدين ضد الاحتلال البريطاني، وضد ممارسات القادمين الجدد لاستطيان الاراضي الفلسطينية وطرد أهلها منها. كما شارك الإخوان المسلمون المصريون في حروب عام 1948 في فلسطين، والروايات التاريخية التي تؤكد ذلك كثيرة، كما وأن الإخوان الذين كان لهم انتشار بعد ذلك في العديد من الأقطار العربية كانت لهم إسهامات في حروب الحكومات العربية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ويذهب البعض إلى القول إن الإخوان كان لهم الدور في إطلاق العمل الفدائي المسلّح ضد الاحتلال الإسرائيلي اعتباراً من منتصف ستينات القرن العشرين.

أما في المراحل المتأخرة وتحديداً في ثمانينات القرن العشرين، فقد قفز الإسلاميون، خاصة في فلسطين، إلى الواجهة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، عبر الانتفاضة التي قادها واستمر بها الإسلاميون في قطاع غزة والضفة الغربية جنباً إلى جنب مع فصائل أخرى، وحينها برز الإسلاميون بشكل واضح عندما تمّ الإعلان عن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ الإسلاميون يبرزون في الساحة الفلسطينية كقوة فاعلة ومؤثرة.

أمّا خارج فلسطين، فإن معظم التيارات والحركات الإسلامية خارج فلسطين وقفت بشكل كبير وواضح خلف حماس والجهاد في مقاومتهما للاحتلال الإسرائيلي، وشكّلوا عمقاً استراتيجياً لهم في مختلف الأقطار.

-       إسلاميو الداخل وإسلاميو الخارج، ويتفق فلسطينيو الداخل الفلسطيني، سواء داخل فلسطين التاريخية أو ما يُعرف بأرض 48، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة على مواجهة مشروع الاحتلال الإسرائيلي ورفضه، والعمل على إسقاطه بكل السبل المتاحة والممكنة، وفي مقدمتها الخيار المسلّح بالنسبة لإسلامي الضفة والقطاع، ويجهد هؤلاء من أجل إشعال انتفاضة جديدة شعبية في الضفة الغربية، كما يجهدون لإرهاق الاحتلال في غزة من خلال استراتيجية "مسيرات العودة" التي تستنزف قوات الاحتلال على مدار الساعة.

فيما انحسر اهتمام الإسلاميين خارج فلسطين قليلاً وتراجع في ظل المستجدات التي برزت بعد الثورات المضادة في دول وأقطار "الربيع العربي" اعتباراً من العام 2011م. فقد بات اهتمام الإسلاميين المصريين منصبّ بالدرجة الأولى على كيفية مواجهة "الانقلاب" والعمل على إسقاطه، وكذلك استيعاب تداعيات وجوده.

كما تركّز اهتمام بقية الإسلاميين في بقية الأقطار على قضايا محلية بالدرجة الأولى جراء ما وصلت إليه الحالة في تلك الأقطار، ولكن ذلك لم يعنِ على الإطلاق إهمال الشأن الفلسطيني أو التنكّر له أو إدارة الظهر لأهله. فقد نظر الإسلاميون إلى الثورات المضادة، على أنها في جزء من أهدافها، حماية المشروع الإسرائيلي الذي شعر بالتهديد الوجودي بعد ثورات العام 2011.

 

رابعاً : موقف الإسلاميين حالياً من القضية الفلسطينية وخياراتهم :

بعد هذا الاستعراض الذي قدّمناه وشمل مسحاً للواقع السياسي والجغرافي والتاريخي، فإن أبرز القضايا والتحدّيات التي تحدد موقف الإسلاميين من القضية الفلسطينية يمكن تلخيصها بالتالي:

-       تحدّي الحفاظ على القضية والوجود والتحرير.

-       تحدّي إنهاء الانقسام الفلسطيني ولعلّه أحد أسباب تحصين الواقع الفلسطيني وتمكينه في مواجهة التحدّيات السابقة.

فالاسلاميون الذين يعتبرون فلسطين قطعة مقدسة يرفضون الاعتراف بشرعية الاحتلال، والتنازل عن أي جزء منها لصالحه، ويعدّون ذلك موقفاً مبدئياً لا يمكن التراجع فيه، إلاّ أنه أمام ضغط الواقع المتمثّل بانقسام المشهد الفلسطيني بين اراضي 48 التي يحمل أهلها الجنسية الإسرائيلية، وبين الضفة الغربية التي يعيش أهلها تحت احتلال مقنّع أو غير مباشر في ظل التنسيق الأمني وقدرة الاحتلال على الوصول إلى أية منطقة من الضفة، وبين قطاع غزّة شبه المحرر والذي يعيش حالة حصار خانقة، وبين الشتات الذي يتهدد الشعب الفلسطيني من الذوبان، فقد برز توجّه لدى حماس تحديداً يدعو إلى وضع الحرب مع الاحتلال لمدة معيّنة من الزمن (هدنة طويلة) والقبول ضمناً بإقامة دولة فلسطينية على حدود العام 1967م، أي تخلّي الاحتلال عن الأراضي التي احتلها عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ومن دون تسجيل اعتراف رسمي من حماس بشرعية الاحتلال.

ويبدو أن هذا الخيار الذي اتخذته حماس من هذه المسألة واقعياً ومنسجماً مع ظروف المرحلة بهدف الحفاظ على وهج القضية من ناحية، وقطع الطريق على ما يُعرف بـ "صفقة القرن" من ناحية ثانية، والتي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، كما يمكن أن يُعدّ ذلك خطوة على طريق التحرير الكامل التدريجي، خاصة وأن إقامة الدولة على أرض العام 1967 لا يرتبط بالاعتراف بشرعية كيان الاحتلال، ولا يؤسّس لتطبيع العلاقة معه.

ولعلّ ما جعل حماس ومن خلفها أيضاً حركة الجهاد ضمناً، تقبلان هذا الطرح، أو تفكران فيه، حالة التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال في الضفة الغربية، والتضييق الذي تعيشه أغلب الفصائل، والحصار المفروض على غزة من قبل السلطة الفلسطينية مالياً، ومن قبل الاحتلال ومصر جغرافياً، والذي بات حالياً مقنناً، وكذلك حالة التضييق على الشتات الفلسطيني في أكثر من بلد وقطر، وفقدان النصير الخارجي على المستوى العربي والإقليمي بعد الثورات المضادة، سوى الدعم الإيراني المحدود، والذي تحوّل في جزء منه إلى تهمة وشبهة في ضوء الموقف الإيراني من ثورة الشعب السوري.

إلاّ أنه على الرغم من هذه الخطوة المهمّة من حماس في إمكانية الوصول إلى هدنة طويلة الأمد، وإقامة دولة على حدود 1967، فقد قفز الاحتلال الإسرائيلي إلى مرحلة جديدة عندما أقنع الأمريكيين بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة لكيانه، وكذلك نقل سفارتهم إليها، فضلاً عن إقرار قانون الدولة القومية الذي يهدّد بتشريد مئات آلاف الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، فضلاً حتى عن الضفة الغربية، وهنا برز تحدّ جديد وآخر تمثّل بمحاولات إمرار "صفقة القرن" وتصفية القضية الفلسطينية بتواطؤ أو سكوت من بعض الحكومات العربية.

وهنا بات على الإسلاميين وغيرهم العمل من أجل إسقاط هذه الصفقة والحفاظ على نوع من التوازن، ورفع التحدّي من أجل استمرار مشروع التحرير، ومن هنا برزت فكرة مسيرات العودة في قطاع غزة كمحاولة أيضاً لاستنهاض الضفة الغربية وإشعال انتفاضة جديدة فيها تربك الاحتلال وتستنزفه وتنهي مشروعه، إلاّ أنها دائماً ما تصطدم بالتنسيق الأمني بين الاحتلال والسلطة.

يدرك الإسلاميون أن حالة الانقسام والصدع الذي تعيشه الساحة الفلسطينية يضعف الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال، ويعطي فرصة أيضاً له للمزيد من التهويد والاستيطان، ويدركون أن سبب هذا الانقسام اختلاف الرؤى بين الفصائل، حيث ترى السلطة ومن فيها أن خيار التسوية والرهان على المجتمع الدولي أجدى في عملية الحفاظ على المكتسبات القائمة في ظل انعدام توازن القوى بين العرب و"إسرائيل"، وينظر البعض إلى هذا المشروع على أنه نوع من الإقرار بالهزيمة، كما يرى فشل هذا الخيار بعد نحو خمسة وعشرين عاماً على اتفاقات التسوية في "أوسلو" حيث لم يلتزم الطرف الإسرائيلي بهذه التسوية بل ذهب إلى مزيد من محاولات فرض الأمر الواقع ومن ثم البناء عليه.

في حين ترى فصائل أخرى وفي مقدمها الإسلاميون أن خيار المواجهة هو الأفضل والأجدى وإن كانت كلفته الآنية أكبر، وتعتبر هذه الفصائل أن هذا الخيار استطاع أن يحرر غزة دون قيد أو شرط، فضلاً عن أنه كسر جبروت الاحتلال وخلق نوعاً من توازن الرعب، ناهيك عن أنه أبقى على قضية فلسطين حيّة في وجدان كل عربي ومسلم وحرّ عبر العالم.

اليوم في ظل هذه التحدّيات، وفي ظل الواقع القائم لا يملك الاسلاميون، خاصة في فلسطين سوى الاستسلام أو المواجهة. الاستسلام يعني فشل الخيارات التي رفعوها طيلة المرحلة الماضية وتكريس هيمنة الاحتلال وضياع القضية الفلسطينية. والمواجهة تعني الكلفة العالية في ظل فقدان الظهير الإقليمي القوي الذي يمكن الركون إليه والاعتماد عليه، وفي ظل الاصطفاف الدولي بأشكال مختلفة، خلف المشروع الإسرائيلي.

ومن هنا هم بحاجة إلى إدارة عملية المواجهة باحترف وبأقلّ الأضرار وبنفس طويل ينتظر حصول متغيرات في المشهد الإقليمي والدولي تعيد إليه بعضاً من توازنه.

ومن ثمّ هم بحاجة إلى تحصين الساحة الفلسطينية عملياً من خلال محاولات إنهاء الانقسام لما تحمل من ضرر ومخاطر، وإقناع الشعب الفلسطيني بضرورة العودة إلى تبنّي خيار المواجهة والجهاد عبر مشروع وطني شامل.

الخلاصات

من خلال استعراض التحدّيات التي تواجه القضية الفلسطينية من ناحية، والإسلاميين من ناحية ثانية، وأمام الظروف والمناخات السياسية التي تعيشها المنطقة، يمكن استخلاص الخلاصات الآنية:

-       الاسلاميون يشكلون قوة فاعلة وأساسية، سواء في المشهد الفلسطيني أو في مشهد المنطقة بشكل عام على الرغم من الثوارت المضادة.

-       التحدّي الأساسي الذي يواجه القضية الفلسطينية في هذه المرحلة هو تصفية القضية من خلال صفقة القرن، وكذلك مسألة طمس حق الفلسطينيين من خلال قانون الدولة القومية في كيان الاحتلال.

-       التحدّي الذي لا يقلّ أهمية لمواجهة مشروع الإحتلال هو في إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة وإعادة بناء مشروع وطني فلسطيني واحد يستند إلى خيار الجهاد والمقاومة دون إغفال أي طرق أخرى يمكن أن تحقق المكتسبات للشعب الفلسطيني.

-       الدخول إلى منظمة التحرير الفلسطينية حتى يكون الإسلاميون جزءاً من المنظمة والقرار الرسمي الفلسطيني.

-       الإفادة من التقاطعات العربية والاقليمية والدولية بما يخدم القضية الفلسطينية، وعدم الإنخراط في أية محاور داخلية على مستوى الاقطار العربية أو الإقليمية.

-       مراكمة الإنجازات، بما في ذلك مسألة الدولة على أرض 1967، كجزء من مشروع التحرير الكامل.

بيروت في تموز 2019   

* دكتوراه في الفكر الإسلامي المعاصر



[1]  - اتفاق سايكس - بيكو هو اتفاق بين وزيري خارجية بريطانيا وفرنسا في مايو 1916 على  إعطاء البريطانيين معظم العراق، وشرق الأردن ومنطقة حيفا في فلسطين، وأما لبنان وسوريا فتوضعان تحت الاحتلال الفرنسي.  أنظر محسن محمد صالح، دراسات منهجية في القضية الفلسطينية، كوالالمبور، ماليزيا، ط 1، يناير 2003، ص 32.

[2]  -  وعد بلفور وهو وعد قطعه وزير خارجية بريطانيا في 2 نوفمبر 1917 يتعهد فيه باسم الحكومة البريطانية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

[3]  - منظمة التحرير الفلسطينية نشأت عام 1964 كمظلة جامعة للعمل الوطني الفلسطيني وفصائله وتياراته المختلفة عقب قرار صدر عن القمة العربية الأولى التي عقدت بالقاهرة. أنظر السلطة الوطنية الفلسطينية، دراسات في التجربة والأداء ( 1994 – 2013)، تحرير محسن محمد صالح، بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، طبعة أولى، 2015، ص 19.

[4]  -  اتفاق أوسلو  اتفاق وُقّع في واشنطن بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" بعد 14 جولة من المفاوضات الثنائية السرّية في العاصمة النروجية أوسلو، ونصّ على قيام سلطة وطنية فلسطينية على أجزاء من الإقليم الفلسطيني. أنظر كتاب السلطة الوطنية الفلسطينية. ص 19. 

[5]  -  مقابلة مع القيادي في حماس محمود الزهار، الجزيرة نت، أجرى الحوار أحمد فياض، 23/10/2007. www.aljazeera.net

[6]  - قانون الدولة القومية قانون أقره الكنيست الإسرائيلي في 19 يوليو 2018 على القانون الذي ينصّ على أن "إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي مع القدس كعاصمة موحدة لها" و "حق تقرير المصير للشعب اليهودي فقط". موقع  cnn  بالعربية . www.cnn.com

[7]  - تصريح وزير الحرب الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان بأن عودة هضبة الجولان إلى سيطرة نظام الأسد أهدأ وأفضل. 2/8/2018. الجزيرة نت. www.aljazeera.net

[8]  - الإمام حسن البنّا وفلسطين، موقع إخوان ويكي. www.ikhwanwiki.com