الاتفاق السعودي - الإيراني وتأثيره في لبنان
آذار 13, 2023

جوني منيّر

حتى إشعار آخر إنّ الاتفاق السعودي - الايراني برعاية صينية، سيشكّل محور التركيز والتقييم للتطورات الكبيرة التي تلهب ساحات الشرق الأوسط.

بدايةً وعلى المستوى الدولي، لا شك بأنّ الصين نجحت في تسجيل هدف في المرمى الأميركي. ففي خطوة تُعاكِس المسار التاريخي للشرق الأوسط حتى في عز حضور الاتحاد السوفياتي، كرّست الصين دخولها كمرجعية دولية في الشرق الأوسط أو المنطقة المحسوبة تقليدياً كمنطقة نفوذ أميركية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. لا شك أنّ الاتفاق أظهَر تراجع النفوذ السياسي الاميركي في المنطقة، فأهمية الرعاية الصينية لهذا الاتفاق أنها طالت أكبر بلدين محوريين في الشرق الأوسط: السعودية وايران.

لكن كي لا «نشطَح» كثيراً في التفسير والاجتهاد، فإنّ هذا الاختراق الصيني ارتكز على الحضور الاقتصادي والتجاري لا العسكري والأمني، والفارق كبير. تريد الصين أن تثبت نفسها كقوة ديبلوماسية صاعدة ارتكازاً إلى قوتها الاقتصادية الهائلة. فالصين تمتاز بأنها أكبر شريك تجاري للبلدين. مع السعودية تخطّت حدود الـ 87 مليار دولار العام الماضي، ومع إيران حوالى 17 مليار دولار، وهي تعمل على توسيع دورها في مجالات الاستثمار وإنشاء البنى التحتية. لكن في المقابل، إنّ واشنطن لا تزال تحتل الصدارة العسكرية وتقديم المساعدات بحراً وجواً وبراً وايضاً على الصعيد الاستخباري والتعاون الأمني.

الأكيد أنّ الاتفاق سيدفع إلى تهدئة التوتر القائم في الخليج، وانعكاسه الأول سيكون على تثبيت الهدنة في اليمن ومحاولة الدفع باتجاه تسوية نهائية. وهذا يلائم مشروع ولي العهد محمد بن سلمان الذي يراهن على دور اقتصادي سعودي جديد وعلى مشروعه الضخم «نيوم»، ما سيفتح للسعودية دوراً ريادياً، ليس على مستوى الخليج فقط، بل على مستوى كامل الشرق الأوسط.

في المقابل قد تكون إيران «سايَرت» الصين ودوّرت بعض الزوايا، وأملت في الوقت عينه في التخفيف من حدة أزمتها الاقتصادية والحصار المضروب عليها. لكن العملة الإيرانية تحسنت بشكل طفيف بعد الإعلان عن الاتفاق، فيما كانت قد سجلت تحسناً قاربَ الـ 30 % الشهر الماضي إثر عودة المفتشين الدوليين وصدور أخبار إيجابية حول الاتفاق النووي، ما يعني أنّ الإنفراج الاقتصادي الحقيقي موجود في مكان آخر.

لكن الأهم الآن هو اختبار مدى عمق الاتفاق ومَداه الزمني، فبعد ساعات على توقيع الاتفاق، أعلنت طهران عن صفقة طائرات سوخوي 35 المتطورة مع روسيا، صحيح أنّ تمهيداً كان قد حصل خلال الأشهر الماضية حول هذه الصفقة، لكنّ الإعلان عنها رسمياً فور إنجاز الاتفاق السعودي - الايراني يضع حدوداً واقعية للمبالغات التي سادت، وهو ما يوحي بأنّ الاتفاق بمثابة تهدئة وتبريد بانتظار حوار مباشر يَطال عمق الخلافات قد يحصل وقد لا يحصل. وعلى سبيل المثال ما هو مصير النفوذ الإيراني العسكري في الخليج، وعلى مستوى «الهلال الشيعي» كما اصطلح على تسميته، وهو ما تعتبره السعودية مرتبطاً بالأمن الحيوي السعودي؟

وعند الجانب الاميركي، صحيح أنّ الامير محمد بن سلمان وجّه صفعة سياسية قوية لإدارة بايدن لكنه بَدا حريصاً على التمييز بين خلافه العميق مع الإدارة الديموقراطية وبين علاقة السعودية الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. فعدا عن أنّ السعودية أبقت واشنطن على اطّلاع بشأن محادثاتها مع ايران، فهي اقتربت من إبرام صفقة شراء طائرات «بوينغ» بقيمة 35 مليار دولار ما سيخلق حوالى مئة ألف وظيفة في الأسواق الأميركية. رغم ذلك، فإنّ اتفاقاً تحت رعاية الصين يناقض استراتيجية ادارة بايدن التي تعمل لتحشيد العالم في مواجهة التمدد الصيني.

والواضح أنّ الأمير محمد بن سلمان يريد إظهار فشل سياسة البيت الأبيض ووزارة الخارجية التي حظيت بنكسات مع عدة دول عربية تعتبر حليفة لواشنطن مثل مصر والأردن.

لذلك، تَنحّت وزارة الخارجية الأميركية جانباً في الشرق الأوسط في مقابل صياغة سياسة أميركية جديدة من خلال وزارة الدفاع التي تمتاز بعلاقة وثيقة مع السعودية. وهنا يظهر بوضوح معنى الخلاف السعودي العميق مع إدارة بايدن من دون أن ينعكس ذلك على العلاقة الاستراتيجية مع واشنطن.

ووسط تصاعد أصوات الاعتراض في واشنطن على السلوك السياسي الضعيف لإدارة بايدن في الشرق الاوسط، تولّت وزارة الدفاع إعادة رسم سياسة جديدة عبر انشاء بيئة تحتية متكاملة للدفاع الجوي والبحري في الشرق الأوسط وبالشراكة مع الجيوش الحليفة في المنطقة.

واستتباعاً، اختفت الانتقادات التي كانت تُكال لمصر حول حقوق الإنسان والقبضة الأمنية مع التنظيمات الإسلامية، وحلّ مكانها تفاهم جديد نَسجه وزير الدفاع الأميركي خلال زيارته القاهرة. والأمر نفسه مع السعودية وأيضاً الأردن. وإيران المَشهود لها بترويها ودراستها العميقة للمواقف السياسية، فهي راقبت وما تزال وتقوم بدراسة جدية حيال التلويح الأميركي الجديد باستخدام القوة. كما هي تراقب بتمعّن الإشارات الحقيقية حول ردة الفعل الأميركية كما الغربية حيال شراكتها العسكرية مع روسيا، إن في اوكرانيا أو في الشرق الأوسط، وماذا تريد واشنطن فعلاً وفي العمق والخطوط الحمر الحقيقية التي تفصل عن القرار الجدي.

وكان لافتاً أن تعلن طهران عن تبادل قريب للسجناء بينها وبين واشنطن وعن استمرار التواصل لإنهاء العقوبات، فيما ينفي البيت الأبيض وجود اتفاق حول تبادل السجناء ويصفه بالخبر الكاذب. وهذا مؤشر لا بد من قراءة خلفياته الحقيقية. والواضح أنّ للتحالف العسكري الروسي - الإيراني مترتباته على ساحات الشرق الأوسط، وهو ما بَدا بوضوح. إزاء كل هذه الصورة يمكن مقاربة الملف اللبناني واستحقاقاته وفي طليعتها الاستحقاق الرئاسي. وخلال الأيام الماضية اجتمعت الدول الخمس المعنية بالملف اللبناني ولكن بعيداً عن الإعلام، ولهذا الأمر أسبابه الوجيهة. فالاجتماع السابق الذي عُقد في باريس جرى تناوله في وسائل الإعلام بكثير من اللغط خصوصاً حيال عدم صدور بيان ختامي. وهذا ما أضعفَ صورة اللقاء، وبَدل أن يشكّل عامل ضغط معنوي كان سَعي لتبرير عدم صدور البيان.

كذلك، فإنّ موضوع التسميات حيال الاستحقاق الرئاسي والتي تستهوي الوسط اللبناني أضَرّ بالرسائل التي حملها اللقاء الخماسي. أضِف إلى ذلك أنّ المطلوب متابعة ما استجدّ بعد لقاء باريس والتحضير جيداً للقاء الذي سيُعقد على مستوى وزراء الخارجية قبل شهر حزيران المقبل، والذي سيجري في ختامه إعلان الورقة النهائية التي ستحمل بنوداً واضحة.

المصادر المطلعة تكتّمت حول مستوى المشاركة في الاجتماع الاخير، لكنها أوردت نقاطاً جرى التطرّق إليها من جديد، وأهمها التمسّك بالاستقرار الأمني على الساحة اللبنانية وسط المخاطر الكبرى التي تضرب الواقعين الاقتصادي والمعيشي في لبنان.

وكذلك إبداء الدعم للموقف السعودي من الازمة اللبنانية، والذي يرتكز على أنّ، لدعم لبنان اقتصادياً، شروطاً لا بد من تنفيذها، بدءاً من مطالب صندوق النقد الدولي ووصولاً إلى مطالب السعودية بالذهاب الى سلطة لبنانية خارج إطار الاصطفافات الإقليمية.

كما تمسّك الحاضرون بالاستمرار في دعم الجيش اللبناني لضمان استمرار الاستقرار، وكونه سيتولى لاحقاً حماية مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة التي تهاوت وتفككت.

واستطراداً، إنّ النظر إلى الاستحقاق الرئاسي من زاوية ضيقة ووضعها في إطار السلوك الذي كان يحصل خلال الاستحقاقات السابقة، يبقى غير واقعي ومبسّط إلى حد بعيد.

الواضح أن المنطقة أمام إعادة تشكيل خارطتها السياسية، والواضح أيضا أن لبنان ليس جزيرة منعزلة عمّا حوله.

ومن غير المنطقي الاعتبار بأنّ التبدلات الهائلة التي ضربت عمق الساحة اللبنانية خلال السنوات الأربع الماضية، والتي شاركت في جزء أساسي منها القوى الدولية، سيجري القفز فوقها بكل سذاجة للعودة إلى ما كانت عليه الصورة سابقاً، وهذا ما يسري على سوريا في الوقت نفسه أيضاً.

ولكن يمكن القول إنّ الاتفاق السعودي - الايراني قد يعكس بداية مسار في هذا الاتجاه.

والإعلان الايراني عن تبادل السجناء مع الولايات المتحدة ورَد البيت الأبيض إشارة تحمل نكهة سياسية لا بد من قراءتها بِتروٍ، ولو أنها ما تزال خطوة اولية وبحاجة لاستكمالها.

فالواضح أنّ أي طرف اقليمي لا يريد الانزلاق باتجاه الحرب وهو ما يدفع للاستنتاج بأنّ التسويات هي السبيل المحتوم، ولكن وفق معادلات جديدة ترتكز على توازنات أخرى، فرضَتها حرب أوكرانيا من جهة والضغوط الاقتصادية والمعيشية التي يُفاقم عامل الوقت من حِدّتها.

المصدر: الجمهورية.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".