مالك ونوس
يمكن القول
إن كل الخطوات في السودان ما بعد الثورة كانت ناقصة. كانت الثورة ناقصة، لأنها لم تُستكمل
عبر تأسيس قيادة قوية لها، تحلّ محل نظام عمر البشير والعسكر، وتطلع بإدارة الفترة
الانتقالية، ما أدّى إلى سهولة اختطافها على يد العسكر، لأن ضعفها أدّى إلى فشلها في
تنفيذ خطّتها باجتثاث فلول نظام البشير الذين أعانوا العسكر عليها. وحتى الانقلاب على
المرحلة الانتقالية وتنصيب العسكر حاكمين للبلاد من دون المدنيين، كان ناقصاً، لأنه
عزَل العسكر دوليا، بعد أن واجهوا مقاومةً ومقاطعةً شعبيةً وحزبية، ولم يستطع أن يحسم
الخلاف بين العسكر من جيش و"قوات الدعم السريع"، فاستمرّ التنافس بينهما
إلى أن وصل إلى التحارب. إذاً، يعدّ هذا التحارب نتيجة حتمية لانقلاب العسكر الذين
لم يفوا بوعودهم بوضع حد زمني لقيادتهم فترات الحكم الانتقالي وتسليم السلطة للمدنيين،
وانسحابهم إلى الثكنات، بعد دمج المليشيات في الجيش أو حلها.
من الواضح
أن عبد الفتاح البرهان الذي قاد مرحلة ما بعد الثورة لم يعرف أن قراره وقف اجتثاث التمكين
هو تمكين للقوّة التي ناصرت نظام البشير في حروبه على الشعب، والتي شرَّع البشير وجودَها
وجعلها قوةً مستقلّة عن الجيش، ثم سهَّل لها أسباب النمو فصارت قوةً إقليمية لها أذرعٌ
تحارب في الدول المجاورة التي تشهد اضطرابات، ولها مؤسّساتها فصارت قوة اقتصادية، ما
كرّسها دولةً داخل الدولة. لكن يبدو أن البرهان، مثل جميع العسكر الذين ينقضّون على
الحكم عبر انقلابات غير شرعية، لا يرون الخطر إلا في المدنيين وقواهم السياسية، خصوصاً
تلك التي تستطيع التأثير على الأرض، عبر قيادة الجماهير وتوجيهها. وكان يظن أنه حين
يدفع هذه المليشيات التي لها تاريخها الدموي في ارتكاب المجازر وجرائم الحرب والجرائم
ضد الإنسانية، إلى ساحة القيادة العامة لقتل الثوّار المعتصمين احتجاجاً على الانقلاب،
واغتصاب النساء ورمي الأحياء والجثث لتماسيح النيل، لن ينقضّوا عليه لتحصيل ثمن خدماتهم
الدموية.
حين أيقن البرهان
أن ثمن تلك الخدمات التي قدّمتها المليشيات له لتمكين موقفه في وجه المدنيين لن يكون
أقلّ من كرسي الحكم الذي استتبّ له الجلوس عليه بعدما اختطفه من أصحابه المدنيين، يمّم
وجهه شطر إسرائيل، علّها تعينه على صديقه اللدود، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ومليشياته،
وعلّها في سبيل ذلك تسبغ عليه الشرعية إذا ما طبَّع علاقات بلاده معها، وسوّقته في
دوائر الغرب السياسية. غير أن حميدتي أيضاً تواصل مع إسرائيل ابتغاء ودّها، ولإظهار
ولائه لها، ولعرض الخدمات التي يستطيع تقديمها إليها، وهو الذي يسيطر على ذهب البلاد
الذي يخشع الإسرائيليون عند رؤية بريقه. ومن غير المعروف بعد أن زادت حمّى تقرُّب الرجلين
من الإسرائيليين وتنافسهما على الفوز بالسباق إلى كسب رضاهم، ما إذا كان هؤلاء قد فضّلوا
البرهان أم حميدتي، أو ما إذا كان لهم دور في هذا الاقتتال الجاري لتغليب طرفٍ على
آخر. لكن المنطق يقول إن مصلحة الإسرائيليين تكمن مع البرهان، بسبب صعوبة تعويم حميدتي
دولياً، على خلفية ارتكاب قوّاته التي كانت تسمّى "الجنجويد"، أعمال الإبادة
الجماعية والتطهير العرقي في دارفور، ثم ارتكابها المجزرة أمام مقر القيادة العامة
للقوات المسلحة في يونيو/ حزيران 2019.
عندما يُصرّح
حميدتي، في مداخلة لإحدى القنوات التلفزيونية، بأن قواته ستطارد البرهان وستقدّمه للعدالة،
فإنه بذلك يصنِّف قوات الدعم السريع القوة الشرعية للبلاد، وينفي هذه الشرعية عن البرهان
وحتى عن الجيش السوداني. وفي هذا انقلاب لحميدتي على الاتفاق الإطاري الذي وقّعه العسكر
والمدنيون، في 5 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، والذي ينصّ أحد بنوده على دمج قوات الدعم
السريع في الجيش، مقدّمة لتكوين سلطة مدنية من دون مشاركة العسكر الذين نصّ الاتفاق
على عودتهم إلى ثكناتهم. وقد وجد حميدتي في الجداول الزمنية التي وُضِعت لدمج الدعم
السريع في الجيش فرصة لافتعال خلافٍ مع الجيش الذي وضع قائده البرهان مهلة ستة أشهر
لتنفيذ هذه المهمّة، بينما وضع حميدتي فترة عشر سنوات، وقيل إنه طلب أكثر من ذلك، خلافٌ
يساعده على الانقلاب على الحلّ النهائي، وربما على البرهان، بعدما رأى في عملية الدمج
إنهاءً لحياته السياسية.
من جهة أخرى،
يمكن للمراقب في ظل الغموض بشأن سبب اندلاع الاقتتال، واتهام كل طرفٍ الطرف الآخر بمحاصرة
مقارّ قيادته، التساؤل إن كان ثمّة اتفاق مُبطَّن بين فريقي الصراع، الجيش و"الدعم
السريع"، على افتعال خلافٍ فيما بينهما من أجل التملص من الاتفاق النهائي الذي
سيعيدهم إلى ثكناتهم، ويجعلهم يُؤتَمرون بأوامر حكومة مدنية، ووزراء مدنيين لطالما
نظروا إليهم بازدراء واعتبروهم غير أهلٍ للحكم بسبب الخلافات التي تنشب بينهم؟ ومن
يراقب مسار ما بعد ثورة 19 ديسمبر 2018، وخلعها البشير، ومن ثم اختطاف العسكر الثورة،
لا يستبعد ذلك. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على تاريخ تملُّص العسكر من الاتفاقات مع المدنيين
وتجاوزهم الفترات الانتقالية، وخرقهم المُدد التي وُضعت لتسليم السلطة للمدنيين، إضافة
إلى انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، واحتجاز رئيس الحكومة، عبد الله
حمدوك، واتهامه المدنيين بالتحريض على الجيش ليسهل عليه التخلّص منهم، ليجد أنها كلها
معطياتٌ تلمح إلى إمكانية اتفاق البرهان وحميدتي على افتعال خلافٍ لمنع تحقيق ما يترتّب
على اتفاق الحل النهائي الذي كان سيُوقَّع بداية شهر إبريل/ نيسان الحالي.
إذا ما توقّف
الاقتتال بين البرهان وحميدتي خلال أيامٍ، فإنه سيتكلّل باتفاقٍ بينهما يكرّس موقع
كلٍّ منهما، وربما يجري التوافق على جدولٍ من سنوات، وليس من أشهر، لدمج "الدعم
السريع"، فإن الافتراضات أن الاقتتال ليس سوى مجرّد فصلٍ آخر من فصول الانقلاب،
ستكون في محلها. وربما سيطلب العسكر المتصالح أن يحتفظ بقيادة البلاد وتطيير الاتفاق
مع المدنيين مدة طويلة، بحجّة قدرة العسكر وحدهم على إصلاح الصّدع الذي أدّت إليه المعارك،
وإعادة بناء المؤسّسة العسكرية لمنع تكرار حوادث مماثلة. وفي هذا السياق، تكون خطوة
الانقلاب قد اكتملت في إضعاف المكوّن المدني، الذي ساهمت خطوة الثورة الناقصة في وضع
لبناتٍ لتفتيته، لا لزيادة اللّحمة بين مكوّناته.
المصدر:
العربي الجديد.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".