المهدي مبروك
الانقلاب في تونس إلى زوال. لن يؤسّس
حالة سياسية دائمة، حتى ولو تمكّن من احتواء الغضب المتفاقم الذي عبر عنه العزوف عن
الانتخابات قبل أسابيع قليلة، أو التحرّكات الاحتجاجية التي بدأت تظهر بين حين وآخر
في أحزمة المدن المهمّشة، والتي جابهها النظام
بمحاكماتٍ جائرةٍ وضعت مئات الشباب في السجون: القصرين، حي التضامن... إلخ. كانت مثل
هذه التحرّكات الأكثر عددا والأشد عنفا مما يجري حاليا، تهزّ البلاد بأكملها، وتعطّل،
في سياقات عديدة، المرافق العمومية ومصالح الناس، ومع ذلك لم تواجهها الحكومات المتعاقبة
مطلقا بالقضاء، ففي تلك العشرية التي يجتهد بعضهم في وصفها حاليا بأبشع النعوت، كان
ذلك يعدّ من تعبيرات ديمقراطية التونسيين الناشئة.
وها هو المرسوم عدد 54 الذي سنه الرئيس قيس سعيّد يظل سيفا مسلطا على رقاب الجميع.
ساق مدونين وإعلاميين ونشطاء حقوقيين وسياسيين
عديدين إلى المحاكمات. فقط علينا أن نستحضر من استدعاهم الأمن والقضاء للتحقيق معهم
على خلفية "إساءتهم وتطاولهم على رموز الدولة ومؤسساتها" في الأيام القليلة
الماضية: الوجه النسوي البارز والقيادية في جبهة الخلاص الوطني، شيماء عيسى، المحامي
ورئيس هيئة الدفاع عن الحريات والديمقراطية عياشي الهمامي، إضافة إلى الأحكام التي
أصدرها القضاء العسكري في حق المحامين والنشطاء السياسيين وغيرهم نهاية الأسبوع الماضي.
الانقلاب زائل، لعدة أسباب، لعل أبرزها
أنه لا يستند إلى قاعدة شعبية، رغم الدعاية الفجّة التي سخر لها الإعلام العمومي. يكفي
أن نتذكّر أن أيا من المعارضين، بمن فيهم أحزاب الموالاة، لم يدخل مبنى التلفزة العمومية
منذ تاريخ الانقلاب، أي 25 يوليو/ تموز 2021. نكتشف، يوما بعد يوم، أن النظام لا يمتلك
أي حاضنة شعبية. لقد تبين تدريجيا أنها مزاعم باطلة لا حجّة واقعية تسندها، وأن بعضا
ممن هلل له إبان بيانه آنذاك ينفضّ حاليا من حوله، بعد أن وقف على حجم العبث الذي يُرتكب
في حق الدولة والشعب معا. لا يمكن لأي نظام مهما بلغت درجة استبداده أن يستمر، وهو
فاقد للحاضنة الشعبية، خصوصا في ظل الانسجام المذهبي والعرقي الذي يطبع المجتمع التونسي.
لا يمكن أن يعتمد النظام على أقلية عرقية أو مذهبية أو حتى مناطقية تدعمه بقوة المال
أو العقيدة. إنه خال تماما من إسناد هذه الأقليات التي استطاعت، في مجتمعات أخرى، أن
تقف مع ابنها البارّ من أجل هيمنةٍ سياسيةٍ عرقيةٍ أو مذهبيةٍ أو طائفيةٍ، حرص بعض
أتباعه على صياغة تشكيلات على غرار "الحشد الشعبي" وحراك 25 جويلية، غير
أنه تبين أنها كيانات افتراضية لا تمتلك أي ثقل على الأرض، مع ضعْف قدرتها على التعبئة
في التظاهرات التي دعت إليها أو الانتخابات التي بينت أنها فقاقيع وأشباح.
إنه نظام شعبوي مدني فاقد كل تلك الهياكل
الجماعوية بالمعنى الأنثروبولوجي. كما أن الانقلاب زائل بطبعه، لأنه يفتقد تماما أي
تشكيلة اجتماعية طبقية تموّل انقلابه. لقد شيطن الرئيس سعيّد رجال الأعمال وكل الفئات
المرفهة، فهم، من وجهة نظره، سماسرة، محتكرون نكّلوا بالشعب ونهبوا أمواله وتلاعبوا
بقوته. لقد ابتزّهم بقانون المصالحة الجزائية الذي بيّن خبراء القانون انه يتناقض مع مبادئ العدالة، فالرئيس قد أوجد سابقة
قانونية خطيرة، إذ إنه بقانونه هذا قد تجاوز أنظمة قانونية عالجت القضية نفسها،
"فساد" بعض رجال الأعمال. كما أن المناخ السياسي والمالي مناهض لأي شكل من
الاستثمار الوطني أو الأجنبي. لقد تحوّل شعار "من أين لك هذا" إلى محاكم
تفتيش مالية، يصعُب أن تحرّر المبادرة الاقتصادية.
فشل الانقلاب في إيجاد طبقة اقتصادية
تدافع عنه، فإذا كان نظام الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، قد استطاع في أكثر
من عقدين أن يوجِد بورجوازية صغير ة وطبقة متوسطة مرفهة نسبيا، فإن الانقلاب قد أجهز على ما تبقى منها. غلاء الأسعار وندرة بعض
السلع والتضخّم الاقتصادي الذي يناهز 10% دفع هذه الفئات إلى النزول في السلم الاجتماعي
في ظل تردّي المرفق العام، خصوصا في قطاعي الصحة والتعليم. ويجري هذا كله في ظل تفاقم
نسب البطالة، خصوصا التي تضرب الشباب المتخرّج من التعليم العالي. وكان الرئيس سعيّد
حال قدومه قد عمد إلى تجميد القانون الذي سنّه البرلمان السابق، المتعلق بالتشغيل التدريجي
لأصحاب الشهادات العليا بدعوى أنه جاء في نطاق المزايدات السياسية بين أحزاب البرلمان
الذي حله سعيّد.
وأخيرا، لن يستمرّ هذا الانقلاب، لافتقاده
أي مضمون سياسي أو ثقافي جدّي، رغم أن الرئيس يبشّر دوما بأنه يقدّم لشعبه فكرا جديدا،
وبأنه ما انفكّ، في لقاءاته بنظرائه أو بمسؤولي المنظمات، يدعوهم إلى اعتناق مقاربة
جديدة من أجل حل قضايا البشرية: التلوث، الفقر،
المديونية. لم نقف، منذ أكثر من ثلاث سنوات، على أي فقرة مفيدة تبلور لأتباعه معالم
الطريق. ستندثر كل هذه الجمل المقتضبة، حال ابتعاده عن السلطة، فهذه الشعارات تنتعش
حاليا من خلال إعلام عمومي كاد أن يتحوّل إلى آلة بروباغندا.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".