حسان الأسود
بحكم التاريخ
أولاً، والجغرافيا ثانياً، وبما توفره لها من إدارة لأهم المقدّسات الإسلامية وما يترتب
عليه من إرثٍ رمزي هائل، تتزعّم السعوديّة العالم الإسلامي دينياً. لكنها تطمح لأكثر
من ذلك سياسياً، وليس فقط على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بل هي تسعى إلى لعب دور عالمي
بين العشرين الكبار. فنظراً إلى ما تتمتع به المملكة من مكانة اقتصادية، سببها الرئيس
الثروة النفطية، وبتأثير النهضة البنيوية الهائلة (فكرياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً)
التي بدأها محمد بن سلمان بمجرّد تعيينه ولياً للعهد، وباعتبار أنها تقع في القلب من
مناطق التنافس الاستراتيجي بين المشاريع العالمية المختلفة، فإنّها تجد نفسها في خضمّ
صراعٍ محمومٍ لإثبات الذات والتصدّر للقيادة.
في المقابل،
تجد إيران ذاتها في تناقض مباشر مع السعودية، فهي تدرك تمامًا أنها لا يمكن أن تنافسها
على الزعامة الدينية باعتبار أنّ الغالبية الساحقة من المسلمين هم من السنّة، وبالتالي،
لا سطوة لولاية الفقيه عليهم. جعلها هذا ترفع شعار تحرير فلسطين. وبالتالي، تجادل في
قضية مركزية طالما كانت ذات أبعاد متعدّدة، منها الإنساني والديني والقومي والوطني.
لكنّ إيران، ذات التاريخ العريق والموغل في القدم، باتت منذ استيلاء الملالي عليها
حبيسة ضيق الأفق الذي يولّد الأنظمة الأوتوقراطية بطبيعتها المنغلقة المتعصّبة، فتبدو
إيران هذه كأنها تعرّف ذاتها بالتناقض مع الآخرين، لا بما تقدّمه عن ذاتها من محتوى
إيجابي مشرق نافع وحضاري.
جعل هذا كلّه
المنافسة بين السعودية وإيران على أشدّها، وانعكس على المنطقة خراباً وتدميراً. وبينما
تتجه المملكة إلى الاندماج ضمن المنظومة الدولية الفاعلة، وبعد أن قفزت أشواطاً بعيدة
في التأسيس للدولة بمفاهيمها الحديثة، أي بالقطع التدريجي مع الموروث القبلي/ العائلي
والارتكاز على أسسٍ متينةٍ من المؤسسات المختلفة (وهي بالمناسبة في الخطوة الأولى من
مشوار الألف ميل)، نجد إيران تسير في الاتجاه المعاكس. لا يغيب عن عين الناظر للأمر
في إيران وجود برلمان وانتخابات ومؤسسة رئاسية وصحافة وغيرها من عناوين الدولة الحديثة،
لكنّ ذلك لا يحجُب أيضاً وجود إرادة طاغية تتمثل بالمرشد والحرس الثوري الإيراني. وبحكم
التصادم الدائم بين القوى الشعبية والليبراليين من الطبقة السياسية الحاكمة، الساعين
إلى الانفتاح على العالم، مع إرادة المرشد المنفردة، مدعوماً من المتشددين قومياً وأيديولوجياً
من الراديكاليين ومن الحرس الثوري، تتّجه إيران باستمرار نحو التعصّب والانغلاق، ولا
تجد من مشاريع خارجية تقدّمها سوى تفتيت بنى الدول المجاورة بهدف استبدالها بعصاباتٍ
ومليشيات تتبعها وتخضع لتوجيهاتها.
لكنّ مصالح
الدول الكبرى لا تتحقق بالحروب والدمار دوماً، بل هناك من يسعى منها إلى مدّ جسور التعاون
الاقتصادي بعيداً عن الخراب والقتل، مثل الصين والهند والبرازيل وألمانيا. هذه الدول،
ولأسباب كثيرة ليس أولها بالطبع القناعات الأخلاقية بعدم جدوى الحروب، بحاجة للسلام
والتعاون خارج منظومات القسر العسكري الذي مارسته الدول الاستعمارية في القرون السابقة.
جعل هذا من بعضها، وهي هنا الصين، صاحبة مبادراتٍ ملحوظةٍ لحلّ الصراعات وتخفيف حدّة
التوترات. جاءت المبادرة الصينية لحلّ الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا خجولةً وعلى
استحياء. ولهذا أسباب كثيرة، يقصر عن الحديث بها المجال الراهن. ثم كانت المبادرة الجريئة
للتقريب بين السعودية وإيران، وهي اقتحامٌ دبلوماسي كبير طالما حاولت الصين تجنّبه.
لكنّ الاقتصاد يفرض شروطه على السياسة في النهاية، فهذا العملاق الاقتصادي يحتاج، بشكل
متزايد، أذرعاً سياسية وثقافية تسنده وتوجّه بوصلته، وسيكون قريباً بحاجة لعصا عسكرية
قوية تساعد الجزرة في عملها. هذا كلّه ليس إلّا مقدّمة لنظامٍ عالمي جديد بدأ يتشكّل،
منذ فترة وجيزة، قد يكون عنوانها الأبرز الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
وبالعودة إلى
مربّع العلاقات السعودية الإيرانية المتشابكة، نجد أنّ إعلان الاتفاق الذي تمّ برعاية
صينية، يثير من الأسئلة أكثر بكثير مما يطرح من إجابات. ليس مردّ ذلك إلى طبيعة منظومتي
الحكم في البلدين فقط، ولا إلى طموحاتهما الكبيرة في قيادة المنطقة، بل لكثرة الملفات
بينهما وتشعّبها أيضاً، فاليمن الذي يشكل جزءاً أساسياً من ملف الأمن القومي السعودي،
وسورية ولبنان والعراق التي باتت أراضيها مسرحاً للتخريب الإيراني، والتجارة في الخليج
العربي وخليج عُمان، وصناعة المخدّرات وتهريبها، والتدخل المباشر في القضية الفلسطينية
من إيران من خلال دعم حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من التنظيمات المسلّحة،
جعلا نقاط الشقاق والخلاف أكثر من نقاط الوفاق والتعاون. لا ننسى أنّ السعودية قد أعلنت
عزمها امتلاك السلاح النووي حالما تتمكن إيران من ذلك، وهذا بحدّ ذاته يفتح أبواب جهنّم
على المنطقة بعمومها.
هل يمكن مثلاً
اختصار هذا الاتفاق برغبة السعودية بتجنّب آثار حرب إسرائيلية وشيكة على إيران لمنعها
من امتلاك السلاح النووي، خصوصاً أنّ أذرع إيران في المنطقة قادرة على إيذاء السعودية
وتعطيل مصالحها كما فعلت المليشيات الحوثية بقصفها المنشآت النفطية مراراً، أم إنّه
ما من مجال لقيام هذه الحرب أساساً في ظلّ إدارة الديمقراطيين التي طالما لهثت باتجاه
اتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي؟ ثم ما هي الفوائد التي يمكن أن تجنيها السعودية
من هذا الاتفاق غير هدوء الخاصرة اليمنية، وهل ستكون إيران فعلاً في وارد تغيير سلوكها
التخريبي في المنطقة، وما هي ضمانات ذلك، وهل يمكن للصين أن تضغط بهذا الاتجاه بدافع
تمرير مصالحها الاقتصادية العابرة بين الجارين اللدودين؟ ما انعكاس ذلك على الملفين
السوري واللبناني، وما هي آثار هذا التقارب في العراق الذي بدأ يصحو رويداً رويداً
من كبوته بعد عشرين عاماً على إسقاط نظام صدّام حسين؟
وحدها الأيام
كفيلة بإظهار مدى التزام إيران بهذه التفاهمات، فهي وإن كانت مصلحتها في الاستقرار
وفكّ العزلة الدولية كبيرة جدًا، إلا أنّ طبيعة نظام الحكم المتطرّف فيها لا يمكن أن
يترك لإيران الدولة ولإيران المجتمع أي دورٍ في إتمام هذه المصالحة مع دول الجوار.
إنّ نظاماً مأزوماً قام على أساس الهدم والتخريب لا يمكن أن يُضمن جانبه في أي اتفاق
إقليمي أو دولي. فصل المقال إذاً في الانتظار والتجربة، وما ستنتجه الأسابيع المقبلة
سيدلّنا على الخطوة السعودية الإيرانية هذه، أهي خطوة تكتيكية لكليهما أم مشوار استراتيجي
طويل؟
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة
في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".