محمد أحمد
بنّيس
دخلت الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني وسط تزايد المخاوف
من تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية على معظم الدول. وفي الوقت الذي
تتطلع روسيا، من خلال حربها على أوكرانيا، إلى تغيير بنية هذا النظام بما يسمح لها،
ولحليفتها الصين، بحيازة مكانةٍ تليق بنفوذهما الدولي المتنامي، تبذل الولايات المتحدة
والقوى الغربية الأخرى (حلف الناتو والاتحاد الأوروبي) كل ما في وسعها للحفاظ على النظام
الحالي، وإبقاء روسيا والصين خارج معادلاته الجيوسياسية الكبرى. وعلى الرغم من أن الأزمة
أحدثت ارتجاجا في هذا النظام، إلا أن من السابق لأوانه الحديث عن تشكّل واقع جيوسياسي
جديد ما دامت الحرب لم تضع أوزارها، في ظل سعي كل طرفٍ إلى تحقيق مكاسب ميدانية تعزّز
موقعه التفاوضي، عندما ينضج الحل الدبلوماسي وتكتمل صورته، ما يجعل الصراع مفتوحا على
كل الاحتمالات، خصوصا بعد فشل المبادرة الصينية أخيرا.
تدرك الولايات المتحدة أن انتصار الروس يعني دقَّ مسمار آخر
في هذا النظام، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تشكّل نظام دولي آخر متعدّد الأقطاب، تُعاد
فيه صياغة علاقات القوة والنفوذ في العلاقات الدولية. ولذلك هي معنية، أكثر من غيرها
في المعسكر الغربي، بتغذية الحرب وإطالة أمدها بغرض إنهاك الروس وجرّهم إلى حرب استنزافٍ
قد تدفعهم إلى الانسحاب من أوكرانيا بما قد يُحدثه ذلك من تداعياتٍ مجتمعيةٍ وسياسيةٍ
داخل روسيا.
لا يندرج الحل الدبلوماسي ضمن الأجندة الأميركية في رؤيتها
إلى تحولات الصراع ميدانيا وسياسيا. ولذلك لا تفتأ تقدّم مختلف أشكال الدعم العسكري
واللوجيستي لأوكرانيا بالتوازي مع توسيع دائرة العقوبات المفروضة على روسيا. ويمكن
القول إن هزيمة روسيا، في حالة وقوعها، ستُفضي، بالنسبة للولايات المتحدة، إلى عزل
الصين وتضييق الخناق عليها باعتبارها مصدر تهديد اقتصادي وعسكري وجيوسياسي.
من ناحية أخرى، تُنبئنا خبرات التاريخ العسكري إن الدول التي
تبدأ بشنّ الحروب وتفشل في إنهائها، وفق أهدافها السياسية المسطّرة، يصبح موقعُها التفاوضي
ضعيفا وتفقد أوراقَ الضغط التي تكون لديها. وينطبق ذلك إلى حد ما على روسيا؛ فعلى الرغم
مما حقّقته من مكاسب ميدانية إلا أن كلفة ذلك تبدو باهظة، ليس فقط بسبب إدارتها الحربَ
بخلفية عسكرية تقليدية موروثة عن الحقبة السوفييتية، بل أيضا بسبب استماتة الطرف الأوكراني
الذي نجح، نسبيا، في إرباكها في الأقاليم الأربعة التي احتلتها، بعد أن أخفقت قواتُها
في فرض سيطرتها الكاملة عليها، وهو ما أظهرته الوقائع في مدينة باخموت. يُضاف إلى ذلك
تأثير العقوبات الغربية التي أضرّت الاقتصاد الروسي، هذا من دون إغفال نجاح الدول الأوروبية
في إدارة أزمة الطاقة بأقلّ الأضرار، ما حرم الروس من ورقة ضغط في غاية الأهمية.
بالطبع، يدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما سيكون عليه
الوضع في حالة خسارة الحرب. ولذلك يحاول توسيع قاعدة القوى الاجتماعية والاقتصادية
والثقافية والأكاديمية (المحافظة) المؤيدة لسياساته. ولعل ما يثير مخاوفه في هذا الصدد
عدم تحمّس فئات عريضة داخل المجتمع الروسي للذهاب بعيدا في مواجهة غير محسوبة مع الغرب.
لذلك لا يتردّد في توظيف الإرث التاريخي القيصري والسوفييتي لتغذية المخيّلة الشعبية
الروسية، بما يضفي الشرعية على سياساته داخليا وخارجيا، ويحفظ الحد الأدنى من التعبئة
الوطنية. وهو ما يجعله في مواجهة الدعاية الأميركية التي تبدو أسيرة معجم الحرب الباردة،
في طرحها الصراع الحالي باعتباره صراعا بين قيم الحرية والديمقراطية، التي يمثّل الغرب
''نموذجها الأسمى''، والاستبداد والهمجية كما تجسّده الإدارة الروسية الحالية.
ليس هناك أفقٌ
قريبٌ لنهاية الحرب الروسية الأوكرانية. ومع توالي فصولها الدراماتيكية، يزداد المشهد
الدولي قتامةً في ظل ما تواجهه دول كثيرة من تداعيات نقص إمدادات الطاقة والغذاء وتضخّم
الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة والركود الاقتصادي.
المصدر:
العربي الجديد.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".