صلاح سلام
يبدو أن ذاكرة
معظم المسؤولين والسياسيين تحتاج إلى إعادة شحن من جديد، بجملة من الحوادث المفصلية
في تاريخ البلد القريب، علّهم يفيقون من غيبوبة النسيان، أو التناسي، ويعودون إلى أرض
الواقع، متخلّين عن سياسة الإنكار التي تتحكم بمواقفهم، وتنعكس سلباً على تصرفاتهم
في المنعطفات الخطرة.
الغيوم الملبّدة
التي تتجمع حالياً في الأفق اللبناني، تتجاوز مسألة الشغور الرئاسي، وترتفع فوق مستوى
الخلافات الحكومية الأنانية والفئوية، والتي تبقى سخيفة، أمام ما يتهدد لبنان من أخطار
إجتماعية وأمنية، بدأت تطل برأسها، في أكثر من موقع.
تسخين أجواء
المرحلة الجديدة بدأ من تظاهرة الموتوسيكلات الملتبسة في الأشرفية، ثم إرتفعت درجة
السخونة إلى إطلاق النار على الدورية الإيرلندية في العاقبية، فأصابت من السائق مقتلاً،
ومازال رفاقه الجرحى في المستشفى.
وسرعان ما
ظهرت الترجمة العملية لتحذيرات مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم من إستمرار الفراغ
في الرئاسة والشلل في الحكومة، بكلامه الصريح عن رفض مليون وثلاثمائة نازح سوري العودة
إلى بلادهم، وهو المكلف بملف إعادة السوريين من الحكومة اللبنانية.
وإذا أضفنا
كلام وزير الطاقة وليد فياض عن عزم وزارته قطع الكهرباء عن المناطق التي لا تدفع فواتير
الإستهلاك، تُصبح الرؤية أشد وضوحاً، لما يمكن أن يكون عليه الوضع الأمني في البلد،
في حال البقاء في العجز الرسمي والشلل الحكومي المتفاقم.
الواقع أن
حالة التنافر والتنافس السائدة بين الكتل النيابية، وعدم نضوج الطبخة الرئاسية في الخارج،
قد ضاعفا حالة التردي والضياع في الداخل، وأدّيا إلى تعطيل السلطة التنفيذية، وإشغال
السلطة التشريعية بجلسات «طق الحنك» الإنتخابية، دون التمكن من إنجاز مشاريع القوانين،
ذات الطابع الإصلاحي.
هذا المشهد
السريالي، الطاغي على كل ما عداه من إعتبارات أخرى، وضع البلاد والعباد أمام معادلة
صعبة ومُعقدة: إما الإسراع في إنتخاب الرئيس وإطلاق ورشة الإصلاح ..أو الفوضى!
من المحزن
القول أن الأرجحية اليوم تميل إلى الإحتمال الثاني، أي الفوضى، بسبب الصعوبات التي
تحول دون إتمام العملية الإنتخابية ووضع البلد على سكة الإصلاح والإنقاذ.
لقد إختبر
اللبنانيون مآسي الفوضى في مرحلة الشغور الرئاسي عامي ١٩٨٩ و١٩٩٠، يوم وضع الموفد الأميركي
يومذاك ريتشارد مورفي المسيحيين، بعد صفقته مع الرئيس السوري حافظ الأسد، أمام خيارين،
أحلاهما مرّ: ميخايل الضاهر رئيساً أو الفوضى. وعندما رفضت القيادات المسيحية الروحية
والسياسية خيار الضاهر، إنزلق البلد في مهاوي فوضى أمنية مدمرة، بدأت بحرب العماد عون
ضد السوريين، ثم بحربه ضد القوات اللبنانية، التي سُمّيت بـ«حرب الإلغاء»، وأدت إلى
تدمير واسع في المناطق المسيحية، وحصول الهجرة المسيحية الأولى، والتي قُدِّرت بمغادرة
٢٥٠ ألف مسيحي لبناني خلال أشهر الحرب الشعواء.
رُبَّ قائل
أن لا إنذار أميركي اليوم، ولا صفقة أميركية مع سوريا، وأن الظروف تختلف عما كانت عليه
في تلك الفترة، هذا صحيح. ولكن الأصح أيضاً أن الإنسداد السياسي في الإستحقاق الرئاسي،
وتحوّل الخلافات الحكومية إلى أزمة وطنية، وتفاقم التدهور المعيشي، كلها عوامل من شأنها
أن تهدد الإستقرار الأمني، وتضع البلد أمام أسوأ الإحتمالات الأمنية، مع تزايد تلاشي
هيبة السلطة الشرعية، والإنقسامات العامودية المتحكمة بالمنظومة السياسية.
ثمة فرصة وشيكة
مازالت تشكل بارقة أمل للبنانيين، بتجنب الأسوأ، من خلال قمة دول الجوار العراقي التي
ستشهدها عمّان غداً، ويشارك فيها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الإيراني
إبراهيم رئيسي، وما يمكن أن يجري بينهما من محادثات ثنائية على هامش القمة، قد تساهم
في تهدئة أوضاع المنطقة، في حال توصلت إلى نتائج إيجابية، وفي مقدمتها الأزمة السياسية
في لبنان.
مشاركة الرئيس
الفرنسي ايمانويل ماكرون في هذه القمة تُوفّر دفعاً إضافياً للملف اللبناني، الذي ما
زال موضع إهتمام سيد الأليزيه، بغض النظر عن تراكم ملفات الأزمات الأخرى، على خلفية
الحرب المستعرة في أوكرانيا.
ولكن لا بد
من التنويه بأن فكفكة العقد التي تتحكم بالإستحقاق الرئاسي، واستعجال إنتخاب الرئيس
العتيد، وتشكيل الحكومة القادرة على خوض غمار الإصلاحات،أمور قد تساعد على تجنب وضع
لبنان تحت مقصلة البند السابع، في حال المراوغة في تحقيقات حادث العاقبية، حيث من المتوقع
عندها أن يخوّل مجلس الأمن اليونيفيل صلاحيات «القوة الرادعة»، مع إعادة النظر بدورها
وجغرافية إنتشارها، وما يعني كل ذلك من مضاعفات على أكثر من صعيد داخلي، أمني وسياسي،
مما يُعيد وضع لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما: الرئيس والإصلاحات.. أو الفوضى!
المصدر: اللواء.
الآراء الواردة
في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".