الربيع إذ يزهر في الخريف
تشرين الأول 02, 2019

د. وائل نجم

 يوم الجمعة 20 أيلول / سبتمبر، الليلة الأخيرة من فصل الصيف، واليوم الذي يليها، اليوم الأول من فصل الخريف، لبّى المصريون نداء الفنان والمقاول، محمد علي، بالنزول ليس فقط أمام منازلهم وفي أزقتهم للمطالبة برحيل رئيس النظام المصري، بل بالنزول إلى الساحات والميادين في المدن الرئيسية، وليس لمدة ساعة كما كان الطلب، ولكن لتستمر الفعاليات إلى وقت متقدم من فجر السبت، وليس بعد نهاية مباراة الأهلي والزمالك، ولكن قبل ذلك بساعات، ولم تكتفِ الجموع المحتشدة والغاضبة والتي كسرت حاجز الصمت والخوف بالتظاهر وإطلاق العنان لأصواتها الصادحة بعبارة واحدة " مش حنمشي هو يمشي" أو "أرحل يا سيسي"، بل لجأت إلى كسر كل الخوف، وكل ما بنته مملكته خلال أعوام مضت، من خلال نزع صور "السيسي" في أكثر من مكان، وإلقائها إرضاً ومن ثم الدوس عليها على مرأى من المارة والشرطة أحياناً فضلاً عن عدسات التصوير دونما خوف أو تردد.

 الحقيقة هي موجة ثورية جديدة بعد أن وصل المطاف بالمصريين إلى ما وصل إليه على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية وخنق الحريات وتجاوز الحقوق. هي موجة ثورية جديدة لم تمثّل فيها دعوة محمد علي، على أهميتها، سوى ما مثّلته "القشّة التي قسمت ظهر البعير". لقد ملّ الشعب المصري الوعود الفارغة، والعنتريات التي لا تصرف في مكان، والأكاذيب والأراجيف التي لا تنتهي فصولاً، والفرص التي يتم طلبها عند كل إخفاق أو فشل على قاعدة "إدي فرصة تانية"، والتسويف الذي دائماً ما يأتي مشفوعاً بالأيمان المغلّظة. ملّ المصريون من كل ذلك، واكتشفوا معه أن مصر "أمّ الدنيا"، بلد المساحات الشاسعة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والعقول النابغة، والطاقات المدفونة، والأعداد الهائلة والقدرات الكبيرة باتت دولة هامشية لا دور لها ولا تأثير على مستوى المنطقة. باتت في خدمة العدو الأساسي لها بنظر الكثيرين. باتت وظيفتها أن تحاصر غزّة، وتخنق المقاومة الفلسطينية، وتمد العدو الإسرائيلي بأسباب القوة، وتتحوّل في عقيدتها لضرب الشعوب في اليمن وليبيا وسورية وغيرها من الأماكن في خدمة مجانية لكل أعداء الأمة من ناحية ومن دون "الرز" هذه المرة. وتأبى الكرامة المصرية والعنفوان المصري أن يسجّل على مصر هذه السياسات التي تهوي بها إلى الدرك الأسفل بين دول المنطقة. تأبى الكرامة المصرية أن يكون من هو على رأس السلطة والحكم في موقع المتهم بخدمة مشاريع الأعداء وعلى رأسهم "إسرائيل". ربما يتحمّل المصري قسوة الحياة ومرارة تحصيل لقمة العيش، والسكن بين المقابر، والفقر والجوع، وغيرها، ولكنه لا يتحمّل أن تهان وتهدر الكرامة المصرية.

لكل ذلك "طفح الكيل" و"كسرت القشّةُ ظهرَ البعير" فخرج الناس تلبية لنداء الكرامة قبل نداء محمد علي في موجة ثورية جديدة لن تتوقف قبل أن تحقق أهدافها. هذه الموجة الثورية التي بدأت طلائعها مع تحرك آخر ليلة في الصيف وأول يوم في الخريف ستكون خريف الذين ظنّوا أن ربيع العرب لم ولن يزهر، فها هو الربيع العربي عاد ليزهر من جديد وفي أول الخريف هذه المرة. ومن قال إنه لن يعود ولن يزهر، لم يرَ ولم يشمّ رائحة أزهار الخرطوم والجزائر من قبل، لكنه بكل تأكيد سيرى ويشمّ رائحة أزهار القاهرة لأنها ستفوح بكل  تأكيد في كل الأرجاء لتزهر معها أزهار صنعاء ودمشق وطرابلس، ويصل فوحها إلى عواصم أخرى لم يزهر ربيعها في العام 2011. إنه الربيع يا سادة، إنها الأزهار بلون الدماء تكمن في أعماق الثرى ثم تخرج كاسرة كل الصمت، ناشرة أجواء الحرية في كل الأرجاء، فانتظروا.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".