عبد الباسط
سيدا
زلزال الطبيعة الذي ضرب جنوب تركيا، وشمال غرب سورية، وامتدت
تأثيراته إلى لبنان والأردن والعراق بارتداداته الكثيرة القوية، أكد أن دول منطقتنا
مرتبط بعضها ببعض ليس على المستوى المجتمعي والسياسي، والتدخلات السكانية بين مختلف
الانتماءات القومية والدينية والمذهبية فحسب، بل هناك ترابط جيولوجي، وعمق جغرافي حيوي،
إلى جانب الخلفية التاريخية المشتركة، والمصالح الاقتصادية المتبادلة.
كما أكد هذا الزلزال بانعكاساته الكارثية التي تمثلت في الدمار
الهائل، والعدد الكبير في أعداد الضحايا والمصابين، وتبعات ذلك كله على الاقتصاد والخطط
التنموية مستقبلاً؛ الفرق الكبير بين الدول المستقرّة بمؤسساتها وبنيتها التحتية الفاعلة،
والقادرة على التحرّك السريع في الوقت المناسب، وهو حال الدولة التركية. وبين دول أخرى
مزّقتها الزلازل البشرية نتيجة إصرار سلطتها الدكتاتورية على البقاء، وإعلانها الحرب
على غالبية شعبها تحت شعار زائف تضليلي: "مقاومة المؤامرة الكونية، والصمود في
وجهها"؛ وعدم الاكتفاء بذلك، بل وصل الأمر إلى حد الاستعانة بالجيوش والمليشيات
الأجنبية، لتساعدها هي الأخرى في قتل السوريين الثائرين على استبدادها وفسادها وإفسادها،
وتهجيرهم، وتدمير بلادهم؛ حتى تحوّلت الدولة إلى جملة سلطات أمر واقع، وتمزّقت الأرض
السورية بين مناطق نفوذ تتحكّم بها قوى إقليمية ودولية، ومليشيات وافدة ومحلية؛ وتعطّل
النشاط الاقتصادي، وتعرّضت الثروات السورية للنهب من مختلف الأطراف، وبات الناس مادّة
للاستنزاف، حتى بلغ الحال أن أصبح معظم السوريين، وفي مختلف المناطق، بغض النظر عن
سائر التصنيفات، دون حد الفقر؛ يعيشون على المساعدات الدولية، وعلى تحويلات أقربائهم
في الخارج، أو يتدبّرون أمورهم بأقسى الشروط
وأسوأها.
أما السلطة وشركاؤها فقد وجدوا في تجارة المخدّرات، واستغلال
مآسي الناس، وفرض الإتاوات على أصحاب الحاجات وأهالي المعتقلين مجالاً لتحصيل الأموال
لزيادة ثرواتهم، وإذلال عامة الشعب. ودمّرت البنى التحتية، أو تآكلت، وأصبحت المشافي
والمراكز الصحية في وضعية يُرثى لها، تعاني من نقصٍ كبير في المعدّات والكوادر والأدوية.
ويؤكّد ذلك كله أن هذه السلطة ستكون عاجزة عن تقديم المستلزمات الإسعافية والخدمات
لأولئك الذين فقدوا مساكنهم، وأصبحوا في غضون دقائق مشرّدين في الشارع.
وفي منطقة شمال غرب سورية، أثبتت المعارضة الرسمية بمؤسّساتها
المختلفة فشلها الذريع، وبُعدها عن الناس، وعدم قدرتها على تأمين الدعم المطلوب ولو
في حدوده الدنيا. بل كان اللافت أن واجهاتها أصبحت خارج التغطية نحو أسبوع؛ لتؤكد حقيقة
بدهية يعرفها السوريون جيداً، أنها معارضة لا حول لها ولا قوة، ولا تأثير لها، وإنما
غدَت جزءاً من لعبة إدارة الأزمة والتسويف بالوعود، وإعطاء انطباع إيهامي بوجود مشروع
حلٍّ سياسي، تطبخه لجنة دستورية كسيحة، لم ولن تؤدّي إلى أي شيء مفيد يحتاج إليه السوريون،
وينتظرونه.
زلزال الطبيعة الذي ألحق الضرر بمدن وبلدات سورية عديدة،
خصوصا جنديرس وحارم وسراقب وجبلة، وتسبب في وقوع نحو ستة آلاف من القتلى، وعدد كبير
من المصابين والجرحى، وأثر في حياة الملايين السوريين الذين كانوا يعانون أصلاً من
آثار حربٍ كارثية أعلنتها السلطة الأسدية عليهم، وهي الحرب التي أدّت إلى سلسلة من
الزلازل المجتمعية والإنسانية التي لن تعالج من دون التوصل إلى حلٍّ مستدام يضع حداً
لعذابات السوريين وآلامهم وشعورهم بانعدام الآفاق. زلزال الطبيعة هذا ربما كان فرصةً
أليمة تذكّر العالم مجدّداً بالمعاناة السورية المستمرة منذ 12 عاماً، وهي معاناة تشمل
مختلف جوانب الحياة، وتؤثر في مستقبل الشباب، ومستقبل الأجيال السورية المقبلة.
وربما من المناسب أن يُشار، في هذا السياق، إلى الأصوات التي
ارتفعت هنا وهناك بعد الزلازل مطالبة بالانفتاح على بشّار الأسد وسلطته، تحت شعار الضرورات
الإنسانية والحفاظ على وحدة السوريين. كما كانت هناك تصريحاتٌ ولقاءاتٌ وزياراتٌ معلنة
قام بها مسؤولون عرب وأمميون إلى دمشق، حيث التقوا مع بشار الأسد. ويؤكّد ذلك كله تجاهل
الجميع أمرا يعرفونه جيدا، أن بشّار الأسد لن يكون في مقدوره، مهما حصل عليه من دعم،
وبُذلت من أجل تسويقه وتعويمه الجهود، من ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري، وتوحيد
البلاد، والارتقاء بسورية إلى مصافّ الدول الطبيعية صاحبة السيادة، المحصّنة تجاه أصحاب
المشاريع الإقليمية أو الدولية.
لقد انتظر السوريون 12 عاماً المجتمع الدولي ليساعدهم على
تجاوز محنتهم، ولكن من الواضح أن الوضع السوري الملتهب لم يعد أولويةً لدى القوى الرئيسة
المؤثرة في المجتمع المذكور، بل باتت تلك الدول، بعد أن حصلت كل واحدةٍ منها على ما
تريده في الأرض السورية، تستخدم المسألة السورية صندوق بريد لتبادل الوسائل، وورقة
ضغط تستخدمها وقت اللزوم في المفاوضات في ملفّات أخرى وأماكن أخرى، ومن الواضح أن الدول
الإقليمية تدرك، هي الأخرى، ماهية هذه اللعبة وأبعادها، لذلك تحاول استخدام الوضع السوري
بما ينسجم مع حساباتها ومصالحها.
وحدهم السوريون يدفعون الضريبة، خصوصا الجيل الشاب الذي قطع
الأمل من إمكانية تحقيق تطلعاته في أجواء النفق السوري المظلم الذي لا تلوح في الأفق
أية بارقة أمل من شأنها أن توحي بإمكانية الوصول إلى حلٍّ ما، يبشّر بالفرح القريب،
ويطمئن السوريين من جميع الانتماءات وفي جميع الجهات السورية، ويضمن مستقبلاً أفضل
للأجيال السورية المقبلة.
وما يلاحظ في تصريحات بشار الأسد وتصرّفاته في المناسبات
المختلفة أنه ما زال يصرّ على تعرّض سلطته
لمؤامرة استهدفت إسقاطها محاسبة لها على دورها "المقاوم الممانع"، وهو الدور
الذي أسهم، بالتنسيق مع النظام الإيراني، في تدمير مجتمعات المنطقة ودولها (لبنان والعراق
واليمن)، ويهدّد مجتمعات ودولاً أخرى. هذا في حين أن المؤامرة الحقيقية كانت على الشعب
السوري الذي تُرك لمصيره من دون أي مساعدة تمكّنه من الوصول إلى برّ الأمان.
وستستمر المعاناة السورية، ولن تستقر سورية ولا المنطقة،
مع بقاء بشار الأسد على رأس السلطة. ولن تتمكّن كل قوى العالم من إقناع السوريين بالعودة
إلى حظيرة هذه السلطة، أو إرغامهم على ذلك، بعد كل ما فعلته بهم من قتل وتهجير وتدمير
وتغييب.
حقّق السوريون، ويحقّقون، نجاحاتٍ فردية في سائر الدول التي
هاجروا إليها قبل عقود، أو تلك التي هاجروا إليها في السنوات الأخيرة بعد الحرب التي
أعلنتها عليهم سلطة بشار الأسد؛ وهي نجاحاتٌ تحظى باحترام وتقدير الجميع. كما سجّل
الطلبة السوريون نتائج باهرة في مختلف الاختصاصات. وفي الوقت ذاته، تمكّن رجال الأعمال
والأكاديميون السوريون من بلوغ مستوياتٍ متقدّمة في ميادين الإنجازات المعرفية والاقتصادية
والإدارية المتنوعة، واستطاعوا إثبات مؤهلاتهم المتميزة وفق أرقى مستويات المعايير
الدولية؛ ولكن جميع هذه الإنجازات ستظل فرديةً لا تساهم في نهضة المجتمع السوري، وتنميته
لصالح سائر مواطنيه مستقبلاً ما لم تكن هناك دولة مستقرّة، ونظام حكم رشيد جاذب يحرص
على مواطنيه في الداخل والخارج، ويرسّخ لديهم الشعور بالانتماء إلى مجتمعهم ووطنهم،
والاعتزاز بهذا الانتماء.
هناك كفاءات سورية يُشهد لها في مختلف المناطق السورية، ومن
جميع الانتماءات، وهناك كفاءات وخبرات بالمقاييس العالمية خارج سورية. وواجب الوفاء
لسورية شعباً وأرضاً يُلزم هذه الكفاءات بالتواصل المباشر، والاجتماع، لتتوافق على
حلٍّ يضع حداً للمعاناة السورية، بعيداً عن التخندقات الأيديولوجية بكافة ألوانها القومية
والدينية والمذهبية والعلمانية، والشعارات الشعبوية، فسورية اليوم تحتاج إلى ترميم
النسيج المجتمعي الوطني الذي دمرته سلطة الفساد والاستبداد والإفساد، وتحتاج أيضاً
إلى العودة الآمنة الطوعية للمهجّرين قسراً من أبنائها وبناتها، كما هي في أمسّ الحاجة
إلى نهضة اقتصادية متوازنه تشمل جميع المناطق، ولن يتحقّق ذلك كله من دون إرادة وجهود
السوريين المخلصين الحريصين على شعبهم. والمعنيون هنا هم في المقام الأول: رجال الأعمال
والأكاديميون والإداريون وسائر المؤثرين اجتماعياً، فهؤلاء لو منحوا الفرصة، بعيداً
عن سطوة السلطة وأحابيلها، في مقدورهم أن يتوافقوا على حلٍّ يطمئن سائر السوريين، ويضعوا
الخطط الواقعية التي تمكّن السوريين من تجاوز قيود الدائرة اللعينة التي تطحنهم لصالح
مافيات الفساد الداخلية والخارجية.
كما يمكن لأصحاب الكفاءات المعنيين هنا أن يضعوا خريطة طريق
تقنع السوريين أولاً، والجوار الإقليمي والمجتمع الدولي بأن سورية يمكن أن تستقرّ،
وتضمن مقوّمات العيش الكريم في ظل وجود إدارة نزيهة رشيدة متوازنة، مخلصة لشعبها، حريصة
على وطنها.
واستقرارٌ من هذا القبيل سيمهّد الطريق أمام تحوّل سورية إلى بوابة الاستقرار والأمان والانتعاش
والسلام في المنطقة؛ وذلك على نقيض ما هو عليه دورُها راهناً في إطار مشروع "محور
المقاومة والممانعة" الذي أنهك مجتمعات المنطقة ودولها، وعمّم فيها الفساد والخراب
اللذين لم يسلم منهما البشر والشجر والحجر.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".