جوني منيّر
ما من شك بأنّ الزلزال المدمر الذي
طال تركيا وسوريا سيشكل بداية ازمات وليس ابداً نهاية لها. فوسط المآسي التي ما يزال
الكثير منها يرزح تحت الانقاض وفي قلب الركام، من غير الانسانية مجرد التفكير خارج
نطاق العملي والسعي لمساعدة حوالى 23 مليون انسان طالهم جحيم ثورة الطبيعة. لكن من
قال انّ السياسة هي في خدمة الانسانية وتتوخى الخير العام؟ فلا حاجة للتكرار بأن السياسة
تقوم على المصالح وفقط المصالح أياً تكن أثمانها.
ففي الوقت الذي هرعت فيه المنظمات الانسانية
للعمل على المساعدة على انتشال الضحايا واسعاف المصابين والمنكوبين، كانت الحكومات
والانظمة تباشر في دراسة التأثيرات التي سيخلفها الزلزال والنتائج السياسية المترتبة
عليه. فعدا ان هنالك مشروعا قائما حيال كيفية ترتيب المرحلة المقبلة في سوريا، فإن
تركيا كانت قد باشرت بلعب دور محوري في شمال سوريا بهدف فتح باب واسع يتيح لها دخول
المعادلة الاقليمية القائمة وعلى قاعدة التوازن مع النفوذ الايراني. لكن ثمة حسابات
جديدة لا يمكن تجاوزها، خصوصا ان الرئيس التركي كان يتحضر جيدا للانتخابات الرئاسية
كي تعطيه تفويضا جديدا لدور تركي اكبر باتجاه الشرق الاوسط.
وجاء الزلزال بمثابة الحادث السياسي
المروع لأردوغان فهو ليس محصوراً في منطقة ضيقة، بل طال 13 مليون تركي في 10 محافظات
تركية وسط توقعات المؤسسات الدولية المختصة ولا سيما مؤسسة «ريسكلاير» بأن تصل اعداد
الضحايا كحد اقصى الى 67 الفاً، معظم هؤلاء في تركيا. وهي ارقام مرعبة وآثارها مدمرة
على المستوى الاقتصادي، خصوصا ان الاقتصاد التركي كان يعاني اصلاً أزمات حادة. وتكفي
الاشارة الى تسجيل انخفاض سعر العملة التركية الى حوالى 30 % العام الماضي، وكذلك ارتفاع
كبير في نسبة التضخم. قبل حصول الزلزال، كان اردوغان قد بكّر في تحديد موعد الانتخابات
لتحصل في 14 ايار عوضاً عن 18 حزيران فهو كان يعمل على كسب نقاط اقتصادية - اصلاحية
في الداخل، والدفع باتجاه اعادة النازحين السوريين الى شمال سوريا من خلال تسوية عريضة
مع الرئيس السوري برعاية موسكو. ويشكل الاقتصاد والنازحون السوريون طليعة الملفات التي
تؤرق الناخب التركي.
ولذلك كان اردوغان يسعى الى التعجيل
بموعد الانتخابات كي يستطيع الاستفادة بسرعة من توظيفه السياسي وقبل ان تضعف ذاكرة
الشارع التركي. لكن الزلزال الذي مزّق هذه الصورة، خلّف في الوقت نفسه ارتفاع منسوب
انتقاد السلطات التركية في كيفية مساعدة المنكوبين ولكن الانصاف يقتضي الاقرار بأنّ
اي حكومة كانت ستتلقى غضب الناس بسبب عجزها عن مواجهة نتائج اهوال بهذا الحجم. واستطراداً،
فهذا يعني بأن شعبية الحزب الحاكم ستتراجع وهو ما سيهدد خيار اعادة انتخاب اردوغان،
في حال أحسنت المعارضة في سلوكها وتوحدت خلف مرشح واحد.
والمغزى من هذا العرض، هو أنّ اردوغان
الذي بات محشورا بانتخابات لا يمكنه تأجيلها لفترة طويلة وفقاً للدستور، يجد نفسه ملزماً
بطلب المعونة الاقتصادية من الخارج، طالما ان البحث في موضوع ترحيل النازحين السوريين
قد اصبح غير منطقي. جلّ ما يستطيع ان يفعله اردوغان هو منع تسرّب اعداد جديدة من النازحين
السوريين الذين خسروا منازلهم بسبب الزلزال. وهذا لن تظهر آثاره الايجابية على الشارع
التركي الغارق في مآسي تداعيات الزلزال. اردوغان يدرك جيداً بأن احتضان الاتراك الذين
أصابهم الزلزال والبدء بإعادة اعمار المناطق المنكوبة سيضاعف من الضغوط على ميزانية
تركيا التي تعاني اصلاً. كما ان الالتفات باتجاه الجارة الشمالية اي روسيا وطلب مساعدتها
الاقتصادية، لا يبدو واقعياً مع الصعوبات التي يعانيها الاقتصاد الروسي نتيجة الحرب
الاوكرانية والعقوبات الدولية المفروضة. أصلاً، إن المساعدة الروسية على مستوى فرق
الانقاذ جاءت ضعيفة إن في تركيا او في سوريا، بسبب مصاعب الحرب الدائرة في اوكرانيا.
وكذلك فإنّ تَوجّه اردوغان غرباً اي
ناحية اوروبا لطلب الدعم الاقتصادي لا يبدو واقعيا وعمليا في الوقت نفسه. صحيح ان الاعلام
التركي يوجّه التقدير لليونان للمساعدة السريعة في عمليات الانقاذ، وهو ما سيخفّف من
مستوى التشنج في العلاقة بين البلدين مستقبلاً، لكن الاقتصاد الاوروبي يعاني بدوره
بشدة من زلزال اوكرانيا العسكري. هو قادر على المساعدة البسيطة، ولكنه عاجز من دون
شك على تقديم مساعدات مؤثرة. ما يعني انه لم يبقَ امام اردوغان سوى البوابة الاميركية
القادرة وحدها على إنقاذه، لكن واشنطن التي تراقب عن كثب التأثيرات السياسية الحاصلة
قد تكون طامعة بأثمان سياسية، وهي التي تعمل على اعادة تشكيل خارطة النفوذ السياسي
في الشرق الاوسط. فمن جهة، قد تسعى واشنطن للتفاهم على برنامج عمل مستقبلي واضح مع
اردوغان طالما انها هي وحدها التي تمسك بحبل نجاته السياسية، وفي الوقت نفسه تريد قطع
الطريق امام استفادة ايران من الفوضى الهائلة واستثمارها نتائج المأساة الحاصلة في
سوريا لصالحها.
وبَدا ذلك واضحاً وضوح الشمس مع إحجام
واشنطن عن رفع العقوبات المفروضة على دمشق، فالاستثناءات الجزئية والمدروسة التي حصلت
لا توحي باحتمال تبديل الوضع القائم، ما يعني ان هنالك مشروعا سياسيا اكبر لن تعرقل
تطبيقه مأساة بحجم تلك الحاصلة. وبالتالي، فإن واشنطن تحرص على منع استفادة ايران من
غرق تركيا في أزمتها وسعيها لملء الفراغ في سوريا واستعادة كامل قبضتها على النظام.
وهنا يصبح كلام الامم المتحدة عن ملايين المشرّدين في سوريا وكأنه سيندرج في اطار التوظيف
السياسي والجهة التي ستتحمّل تبعات ذلك. ولكن ثمة ناحية اخرى لا تقل خطورة عمّا هو
حاصل، فالتقارير الواردة من شمال سوريا تحدثت عن هروب حوالى 20 كادراً من داعش كانوا
معتقلين في احد السجون لدى الاكراد بالقرب من الحدود مع تركيا. وهذا ما يفتح باب التكهنات
مستقبلا خصوصا وسط الفوضى العارمة الحاصلة بين المنكوبين والمشردين والذين اصبحوا من
دون مأوى او ملجأ. مع التذكير بالكلام والتسريبات التي تحدثت سابقاً عن تباين في المصالح
بين دمشق وطهران، وحيث ترافقَ ذلك مع تكثيف القصف على الطريق البري الذي يربط ايران
بلبنان. كل هذا المشهد يؤشّر بأنّ لبنان الذي لم يكن بمنأى عن الاهتزازات التي أحدثها
الزلزال لن يكون ايضا بمنأى عن التداعيات السياسية التي بدأت تتمخّض عنه، خصوصاً انّ
جوانب الصراع الداخلي الحاصل تأخذ ابعاداً حادة، إن بالنسبة للاستحقاق الرئاسي او الكباش
البرلماني او الصراع الحكومي. لكنّ البعد الحقيقي الفعلي لكل ما هو حاصل، يتعلق بالصراع
القائم حول خيارات لبنان المستقبلية، والذي يحصل ما بين النفوذ الايراني والنفوذ الاميركي
عبر المواجهة الصامتة بين «حزب الله» والسعودية. وكل ما تبقّى تفاصيل لبنانية داخلية
تدخل في نطاق «تزيين» للصراع الحقيقي الدائر.
وفي اعتقاد الاوساط المعنية، فإنّ
«حزب الله» لن يعمل على تليين مواقفه، طالما لم تحصل تسوية معه تطال المرحلة المقبلة
بكامل مندرجاتها السياسية والسلطوية. وكذلك فإنّ السعودية لن تقدّم اي التزامات تساهم
في مساعدة لبنان اقتصادياً في المرحلة المقبلة، طالما انه لم تصل سلطة جديدة خارجة
عن نفوذ «حزب الله» وتأثيره، وهو ما ظهر واضحا في اجتماع باريس الخماسي. ووسط ذلك رهان
على من يصرّح اولاً، في وقت يستمر الانهيار السريع في الاقتصاد والنقد والمصارف والواقع
المعيشي. وهو رهان موجِع على عامل الوقت والذي لا يحتمل ان يحسب بالسنوات، بل بالاشهر
والاسابيع. في الحقيقة، إنّ مشاكل الزلزال قد بدأت الآن.
المصدر: الجمهورية.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".