صلاح الدين الجورشي
حدّثني زميل تونسي التقى أخيراً الكاتب فهمي هويدي،
وسأله عن رأيه في ما يحدث في سورية. أجاب بكونه يخشى من الدور السيئ الذي يمكن أن
يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وأشباهه، فهذه التنظيمات الموغلة في
السلفية الراديكالية لا تملك القدرة على تجاوز مربّعها الأيديولوجي الضيق، لكي
تفهم الأسباب العميقة التي دفعت أحمد الشرع إلى التخلي عن "خطوط حمراء"
عديدة آمن بها من قبل.
وجّه تنظيم داعش، يوم الـ24 من الشهر الماضي (ديسمبر/
كانون الأول)، تهديداً واضحاً لحكومة دمشق، حذّرها فيه بأنه سيطبق عليها
"واجب الحرب والسلم" في حال تبنّيها مفاهيم مثل مجلس انتقالي ودستور
وطني. كما ذكر أن "من يدعو إلى دولة مدنية في سورية هو شريك وعميل لليهود
والصليبيين". ووصف الوضع في سورية بأنه "انتقال من جاهلية إلى جاهلية
أخرى"، بحجّة هيمنة تركيا العلمانية على البلاد.
لا تزال بعض هذه الجماعات الموغلة في السلفية ترفض
مطلقاً هذا التطور الذي برز داخل السلفية الجهادية، وترى فيه ردة عما تعتبره
"الإسلام الصحيح". لا يهمها الخصوصية المجتمعية لسورية، ولا تركيبتها
الطائفية، ولا منظومة حقوق الإنسان الكونية، ولا تعترف بضرورة وضع دستور يضمن
الوحدة الوطنية للسوريين، ولا تقرّ بالحدود الفاصلة بين الدول. تعتمد فقط على
مجموعة مفاهيم عقائدية، ومنظومة فقهية، ومنهج سياسي متعارض تماماً مع بقية
المنظومات والمفاهيم التي شكلت البيئة التي نشأت داخلها الدولة الوطنية والإطار
الإقليمي والدولي الحديث. وتعتقد هذه الجماعات أن العلاقة الوحيدة التي يجب أن
تسود بينها وبين العالم، بما في ذلك سورية، هي العنف الذي تطلق عليه مصطلح
"الجهاد".
ما حدث في دول عربية أخرى خاضت تجارب الانتقال
الديمقراطي يتكرّر حالياً في سورية، حيث تصدّى التيار السلفي الجهادي لهذه
المسارات الإصلاحية بقوة السلاح. وهو ما جعل الحركات الإسلامية المعتدلة تغازل في
البداية هذا التيار، وتحاول احتواءه كما حصل في تونس، لكن النتائج كانت سلبية، بل
وكارثية على أكثر من صعيد.
السؤال الذي يتردد حالياً يتعلق بمدى قدرة هذه التنظيمات
على الإضرار بالمسار السوري الراهن وإجهاضه... يبدو أن الرئيس أحمد الشرع مدرك
المخاطرَ التي يمكن أن تنجر على المغامرة التي يخوضها حالياً بكل شجاعة وجرأة، فهو
يعلم جيداً أن المراجعات التي قرّر القيام بها منذ مدة لن يقبلها حلفاؤه السابقون،
وسيعارضونه بشدة. لكنه واصل مساره اعتقاداً منه بأنه الطريق الوحيد الذي يمكن أن
يخرج سورية من الحفرة العميقة التي أوقعها فيها نظام الأسد. لهذا تراه يسرع الخطى
نحو تحصين هذا المسار بقراراتٍ استحسنها عموم السوريين، جديدها أخيراً حل الفصائل
المسلحة، والتعجيل بتأسيس جيش قوي ومتماسك. وتستعد البلاد لتنظيم حوار وطني شامل،
ووضع دستور جديد. واعتبر هذا الوضع مؤقتاً، وسينتهي بتنظيم انتخابات نزيهة وشفافة.
وبذلك، تكون سورية قد اختارت منهجاً مختلفاً عما يدعو إليه تنظيم الدولة الإسلامية
وأشباهه. وبناء عليه، ستكون المواجهة واردة إن أصرّوا عليها. لكن هؤلاء سيجدون
أمامهم نظاماً مدعوماً من كل الفصائل التي ساهمت في تحرير دمشق، والتي اختارت
الاندماج في الدولة الجديدة. نظام يتمتّع بشعبية واسعة، وبدأ يحظى بدعم دولي
وإقليمي واسع. ومرشّح لتحقيق نقلة اقتصادية واسعة، مقارنة بما كانت عليه الأوضاع
تحت سلطة بشّار الأسد وحزب البعث.
في ظل هذا التحول الكبير، لن يستطيع تنظيم الدولة
الإسلامية وغيره إرباك هذا المسار، إلا بالتآمر على أمن سورية، واللجوء إلى أساليب
الاغتيالات وإحلال الفوضى وبث الخوف والرعب في صفوف المدنيين. وقد سبق أن جرّبت
هذه التنظيمات خططاً شبيهة في بلدان أخرى مثل تونس، لكن النتائج كانت عكسية، وأدّت
إلى عزلها، وتأليب الرأي العام عليها. ولعل التجربة السورية تشكل الانحسار الكامل
لهذا التيار العنيف الذي قدم أسوأ مثال في تاريخ الحركات الإسلامية.
المصدر : العربي الجديد
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن
"آفاق نيوز".