المبادرة الفرنسية والسيادة اللبنانية!
كانون الأول 07, 2023

وائل نجم

الأزمة السياسية الخانقة التي يمرّ بها لبنان بسبب فشل المجلس النيابي في انتخاب رئيس جديد للجمهورية لأسباب كثيرة ليس محل سردها ومناقشتها الآن، استدعت تدخّلات عديدة خارجية على هيئة مبادرات بعضها مقبول وينطلق أساساً من مشاعر أخوية كما في المبادرة العربية أو القطرية تحديداً حيث تحرّك الأشقاء القطريون على خط معالجة الأزمة والمشكلة اللبنانية من دون حسابات خاصة بهم، أو اعتبارات لها علاقة بمصالحهم الخاصة، بينما رأينا أنّ بعض التدخّلات الأخرى على هيئة مبادرات ووساطة انطقلت من حسابات ومصالح خاصة وفئوية تتصل بأصحابها كما في التدخّل الفرنسي أو ما اصطُلح على تسميته المبادرة الفرنسية والتي مثّلها بشكل أساسي زيارات الموفد الرئاسي الفرنسي، جان إيف لودريان، وكانت آخر زياراته قبل أيام قليلة على وقع ما يجري في قطاع غزة من عدوان إسرائيلي همجي مجرم حظي بتأييد فرنسي منقطع النظير. وقد القتى لودريان في بيروت عدداً من المسؤولين اللبنانيين الرسميين والحزبيين وناقش معهم هذه المرّة مسألة لا تتعلّق بالملف الرئاسي الذي تدخّلت فرنسا في الموضوع اللبناني كوسيط من أجل تسريع انتخاب الرئيس وتسهيل ذلك.

لاحظنا خلال التحرّك الفرنسي منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق للجمهورية أنّ فرنسا تحرّكت انطلاقاً من حسابات خاصة بها وبمصالحها بعيداً عن مصلحة اللبنانيين أو المصلحة اللبنانية العامة، وبرز ذلك بشكل جلّي وواضح عندما اعترضت على الأفكار الفرنسية التي طُرحت للنقاش في ملف الرئاسية أقرب المقرّبين تاريخياً إلى فرنسا حيث اعترضت واحتجّت القوى والأحزاب المسيحية جميعها تقريباً على تلك الأفكار والأطروحات حتى اضطّرّت فرنسا على التراجع نظرياً عن أفكارها وأطروحاتها، وقد كان لافتاً في حينه أنّ الدول العربية المهتمّة بإيجاد حلّ للمشكلة اللبنانية تذمّرت من الأفكار الفرنسية واعترضت عليها بطريقة دبلوماسية وبرز ذلك بشكل واضح في الموقف السعودي في حينه.

هذه المرّة عاد المبعوث الفرنسي، جان إيف لودريان، إلى بيروت تحت عنوان الملف الرئاسي من دون أن يحمل أفكاراً جديدة، بل راح يطوف على المسؤولين باحثاً معهم موضوع قيادة الجيش في ظلّ اقتراب موعد انتهاء ولاية القائد الحالي العماد جوزيف عون. ما تسرّب من لقاءات لودريان مع المسؤوليين يشير إلى أنّ الموفد الفرنسي هذه المرّة يسوّق للتمديد للقائد الحالي للجيش، ويحاول تشكيل قناعة عند بعض الأطراف التي تعترض على ذلك ضمناً أو بشكل علني واضح. وبغض النظر عن مواقف القوى اللبنانية فيما خصّ هذه المسألة، ولكلّ جهة موقفها ووجهة نظرها، فإنّ مجرّد أن يتدخّل الموفد الفرنسي في هذا الملف هو مسألة خطيرة ويُعدّ تدخّلاً مباشراً في مسألة داخلية لبنانية صرفة، وبالتالي لا يحقّ له ولا لغيره التدخّل في مثل هذا الملف، فضلاً أساساً عن التدخّل في الملف الرئاسي بالشكل الذي يتدخّل فيه.

يبدو أنّ فرنسا ما تزال تتصرّف في لبنان كما لو أنّه ما زال خاضعاً لها كما كان في ظلّ ما يُسمّى بـ "الانتداب". الانتداب والاحتلال انتهى منذ فترة طويلة وبعيدة، ولبنان اليوم يقرّر ما يراه في مصلحته وليس في مصلحة أي طرف أو فريق آخر، والجميع يجب أن يدركوا ذلك بغض النظر عن حجم الخلافات الداخلية بين القوى السياسية وهو من طبيعة العمل الديمقراطي ولعلّ أغلب الدول الديمقراطية تعيش شيئاً مماثلاً لما يعيشه لبنان في مسألة القرارات وممارسة السلطة.

المبادرات والوساطات بهذه الطريقة هي بمثابة اعتداء سافر وواضح على السيادة والقرار اللبناني ولا يوصل إلاّ إلى مزيد من التعقديات في المشهد اللبناني، خاصة وأنّ المتدخّلين يتدخّلون انطلاقاً من تأمين مصالحهم على حساب المصلحة اللبنانية كما لو أنّ لبنان ما يزال في مرحلة المراهقة ولا يعرف مصالحه، ولذلك فإنّ هذه التدخّلات مرفوضة طالما أنّها لا تعود على لبنان بالخير.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".