نبيل هيثم
يقول الرئيس نبيه برّي انّ الفرصة متاحة
في أيّ وقت لانتخاب رئيس للجمهوريّة، بشرط أن تتوفّر الإرادة الصادقة لدى المكونات
السياسية لإتمام هذا الاستحقاق.
ولأنّ أحداً لا يعرف ماذا يُخبَّأ للبلد،
توجّه بري إلى النوّاب قبل فترة بأنّ «ثمّة فرصة لانتخاب رئيس للجمهورية فهل نتلقّفها»،
منطلقاً من قراءته لمشهد المنطقة، والخطر الكبير المتأتّي عليها من حرب الإباداة الجماعية
التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، والتي كانت آنذاك ما تزال في بدايتها.
جلّ ما اراده هو اعادة الامساك بالبلد
ومنحه شيئاً من المناعة بإعادة تكوين الدولة والسلطة، فالبلد بوضعه الراهن أضعف من
أن يواجه المخاطر ايّاً كان حجمها. قال برّي ما يجب أن يحصل درءاً لمخاطر تلوح في الأفق.
وفي ذلك دعوة لكلّ المعنيّين بالملف الرئاسي الى لحظة تخلٍّ عن منطق النكد والحقد المتبادل،
والتفكير مليّاً بواقع لبنان دولة وشعبا ومؤسسات، أين كان؟ وأين اصبح؟ وأين يمكن ان
يكون لاحقاً؟ والى أين يمكن أن ينحدر إن لم نلتقطه حتى لا يفوت الأوان؟ خصوصا انّ ثمة
من يريد للمنطقة أن تزحل من مكانها.
ولقد كرّر أكثر من مرّة «أوّل شي البلد»،
ولا بدّ لجدار الأزمة الرئاسيّة من أن يتشقق، وأقل الإيمان والواجب في هذه المرحلة
الأخطر في تاريخ المنطقة - لبنان من ضمنها طبعاً - أن تتنادى المكونات السياسية لعبور
هذا الجدار والتلاقي لإنقاذ ما يمكن انقاذه، والفرصة لم تفت بعد.
أثنى حلفاء بري على مبادرته هذه، حلفاؤه،
وتحمّس لها وليد جنبلاط، وثمّة من قال: «فرصة في اليد ولا عشرة على الشجرة، ورئيس المجلس
يحاول ان يضع رئاسة الجمهورية في اليد، لأنني مثله أخشى من الا تكون الرئاسة غداً لا
في اليد ولا على الشجرة».
اما في المقلب الآخر، فلا حياة لمن
تنادي. فبدل أن توقِظ صرخة بري النّائمين على مخدّة التعطيل، قابلتها أصنام ناشفة لا
ترى، او لا تريد أن ترى ماذا يجري والى أين تسير المنطقة، وعقول مصفّحة بالحقد الأسود
مبتدؤها وخبرها إنعاش حزبياتها وشعبوياتها، وأمّا إنعاش البلد فـ»الله لا يردّو». والأسوأ
ما بين تلك الاصنام الناشفة والعقول المصفحة، صبيانيات لا تُرى بالعين المجردة، ومراهقات
باحثة عن عضلات تستقوي بها، ومبرمجة فقط لأن تميل غب الطلب في ايّ اتجاه. في دور يؤديه
ليشعرها بأنها موجودة على الحلبة السياسية!
في هذه الحفرة سقط، أو بالأحرى أسقطوا
انتخاب رئيس الجمهورية وفي قعرها يقيدونه منذ 13 شهراً، بشروط ومستحيلات وشخصانيات
وحسابات. وعلى سطحها يمضون في لعبتهم العبثية في ضرب المؤسسات من الحكومة الى مجلس
النواب، والتباري في اثارة العصبيات والحساسيات والاستفزازات، والانخراط في محاور واصطفافات
والتبرّع بلغة تعمّق الانقسامات على ما هو حاصل في زمن الحرب القائمة. وكذلك اختلاق
ازمات يقفزون فيها من مشكلة الى مشكلة، على ما هو حاصل في ملف قيادة الجيش وصراع الكيد
السياسي والتجريح الشخصي المتبادل حوله بين «القوات اللبنانية» الحاملة مع حلفائها
لواء التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون، وبين «التيار الوطني الحر» الرافض بقاء
العماد عون في اليرزة بعد 10 كانون الثاني المقبل ويشدّ لتعيين قائد جديد. هنا تكمن
المشكلة المستعصية، وهنا تبقى كلّ الاحتمالات واردة.
في موضوع الرئاسة، وعلى قاعدة أشهد
أنّني قد بلغت، حاول برّي أن يكسر جدار التعطيل، فربّما يكلّف أحدٌ نفسه ويقرأ بعقلانية
وواقعية مشهد المنطقة ويدرك حجم المخاطر التي تحوم في اجوائها، فيقتنع بأنّ الضرورات
فوق كل الاعتبارات، وبأولوية تحصين الداخل، ومدخله انتخاب رئيس للجمهورية.
وفي ملف قيادة الجيش، ومنعاً لأي لبس
او محاولة البعض من «أصحاب المشكلة» تصدير تعقيدات هذا الملف الى غير مكانها الاصلي،
حدّد رئيس المجلس موقفه بأنّه مع التمديد لقائد الجيش إن رَسا التوافق على هذا الأمر،
ومع تعيين قائد جديد للجيش ان رَسا التوافق على هذا الأمر ايضاً، ونقطة على السطر.
والقرار الأكيد في هذا الشأن هو في يد الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية القادرة
على أن تمدّد او تعيّن حتى ولو كانت الحكومة في حال تصريف اعمال، فإن تعذّر ذلك فحينئذ
يأتي دور المجلس النيابي لبحث هذا الامر ضمن جدول اعمال جلسة تشريعية.
في قناعة بري أنّ في الإمكان ترتيب
البيت الداخلي اليوم قبل الغد وبأقل الاشكالات الممكنة، توازيها خشية كبرى من ان تتمدّد
فترة التعطيل الى مديات طويلة جدا. فالحرب الاسرائيلية على قطاع غزة لا أولويّة في
موازاتها أعلى من اولويّة حماية لبنان وتحصينه بشيء من المناعة الداخلية، وبالتالي
لا بد من استفاقة داخلية في اي لحظة، وإن كانت احتمالاتها ضعيفة حتى الآن، فإسرائيل
التي تُراكِم جثث الأطفال والنساء الشهداء في قطاع غزة، وتدمّر بناها التحتية والفوقية
والبشرية والانسانية والصحية، وتوسّع اعتداءاتها على لبنان، قد لا تتورّع في أن تتبع
جرائمها الفظيعة في غزة، بالقيام بعدوان على هذا البلد، يضعنا في موقعنا الطبيعي فنحن
في صميم المقاومة وواجبنا أن ندافع عنها ورَد أي عدوان على وطننا. ولقد أسمع ذلك لكل
الموفدين، الذين كانوا يلفّون ويدورون فقط حول امر وحيد، ليس الحرص على لبنان، بل توفير
الامان لاسرائيل ليس إلا.
يبقى أن الحرب الاسرائيلية على غزة،
وما يرافقها من تطورات عسكرية على الجبهة الجنوبية، فرضت جدول اعمال جديداً لدى رئيس
المجلس. فعلى الجانب اللبناني، يتابع بري دقائق الوضع العسكري على الحدود، ويتتبّع
اوضاع آلاف النازحين من القرى الحدودية، فلا يترك شاردة او واردة الا ويتفحّصها. امّا
المُلحّ قبل كل شيء فهو توفير متطلباتهم في اماكن لجوئهم. والأهم من كلّ ذلك هو الانتقال
الى اعلى درجات التنبه والحذر مما تُبيّته اسرائيل، خصوصا انها بدأت تتعمّد توسيع دائرة
عدوانها الى مسافات بعيدة عن الحدود، واستهداف المناطق الآهلة عمق البلدات اللبنانية
وقتل المدنيين، مثلما فعلت في مجزرة عيناتا التي ادت الى استشهاد ثلاث فتيات وجدتهنّ،
وكذلك في استهداف المسعفين في جمعية الرسالة الاسلامية.
اما في الجانب الفلسطيني، فيتفاعل بري
مع كل خبر يَرِد من غزة، فلا شيء افظع من تلك المشاهد المروعة لأطفال غزة ومشافيها،
والدمار الكارثي الذي حدث فيها. فهذه الحرب الشيطانية التي تشنها اسرائيل، كشفت الجميع
من دون استثناء واماطت اللثام عن الشعارات الدولية الخادعة حول الحرية وحقوق الانسان.
ولكن في موازاة الانحياز الدولي اللئيم الى جانب اسرائيل يبقى الأمل معقودا أولاً واخيرا
على صمود المقاومة الفلسطينية واستبسالها في منع العدو من تحقيق اهدافه، التي يندرج
في مقدمها تحقيق ما يسمّونه شرق اوسط جديداً بالمعايير الاميركية والاسرائيلية. وكذلك
الامل معقود على الشعوب العربية التي تنتفض انتصاراً لغزة وفلسطين بمعزل عن الانظمة.
وايضا على التحوّل المتزايد في الرأي العام العالمي، الذي تحدى أنظمته الحاكمة ونزل
بتظاهرات شعبية بمئات الالاف على مستوى العالم للتعبير عن فداحة الاحساس بما ترتكبه
اسرائيل من جرائم خرافية ضد الانسانية والمطالبة بردعها.
تلقى بري بحزن شديد خبر استشهاد رئيس
المجلس التشريعي الفلسطيني أحمد بحر في قصفٍ اسرائيلي استهدف مقر المجلس، واستذكر امام
زواره اتصالا هاتفيا تلقاه من الشهيد قبل فترة قصيرة، طلبَ فيه بحر من الرئيس بري أن
يكتب مقدمة لكتاب يعدّه، فاستجاب بري وحقّق له ما أراد، لكنّ بحر استشهد، وليس معلوماً
ما اذا كان كتابه قد نُشر أم لم ينشر.
المصدر: الجمهورية.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".