إياد الدليمي
كم كان صعباً علينا أن نتقبّل تلك الحقيقة
المرّة. كنّا مجموعة من الصحافيين، رفضنا أن نكتب عبارة "سقوط بغداد" في
كل وسائل الإعلام التي نعمل فيها. كان وقع الكلمة ثقيلاً علينا، وما زال. دشّنا بعد
ذلك جملة ما زالت أثيرة إلى النفوس، وتجدّد نفسها كلما مرّت ذكرى احتلال العراق
"بغداد لم تسقط وإنما دخلها الساقطون". كنّا نحاول أن نداري بها شيئاً من
خيبتنا وكرامتنا التي ثُلمت ومرارة الوجع الذي نعيش كلما مررنا بدورية للمحتلين.
ما زالت المشاهد الأولى لرؤية دبّابات
الغزو وهي تدخل بغداد عبر خاصرتها الشرقية، ديالى، لا تغيب عن ذاكرتي، ولا يبدو أنها
ستغيب يوماً. ما زال المشهد يكرّر نفسه كلما مرت تلك الذكرى الأليمة. خرجنا عقب صلاة
فجر التاسع من نيسان، لنسمع سُرف الدبابات وهي تتقدّم عبر الشارع الذي لا يبعد عنّا
سوى 300 متر. وقفنا نشاهد وكأننا في حُلم مزعج. لم أصدّق، ولكن العلم الأميركي المرفوع
فوق الدبابات والعجلات المختلفة كان يكذّبني، ويؤكّد أني لست في كابوس مزعج، بل في
حقيقةٍ يجب أن أتعايش معها.
ها قد مضى 20 عاماً على ذكرى احتلال
بغداد، ودخول مبشّري الديمقراطية الأميركية الجديدة التي سعت واشنطن لنشرها، ليس في
العراق فحسب، بل في الشرق الأوسط. تُرى أين العراق الذي كنّا نعرفه ويعرفه العالم؟
هل بات العالم أكثر أمناً بعد غزو العراق؟ هل انتشرت الديمقراطية؟ هل تحولت منطقة الشرق
الأوسط إلى عصر جديد بعد نشر الفوضى الخلاقة التي جاءت على ظهور دبابات أميركية وعبر
صواريخ التوما هوك؟
احتلّ العراق المرتبة الـ157 عالمياً
بين 180 دولة ضمن مؤشّرات مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية عام
2021، وتقدّر حجم المبالغ المهدرة في العراق منذ 2004 وحتى 2020 بنحو ألف مليار دولار.
أما نوع الديمقراطية التي يعيشها العراق، فهو الذي لا تفضي فيه صناديق الاقتراع إلا
إلى اختيار الشخوص أنفسهم والأحزاب والكيانات نفسها التي أسهمت في تأسيس العملية السياسية
بعد 2003. ولك أن تتخيل أي نوع من الديمقراطيات التي زرعتها أميركا في العراق.
بعد 20 خريفاً من الاحتلال، تتحكّم
بالعراق اليوم نحو 70 مليشيا مسلحة، هيكلياً تابعة للدولة، وفعلياً هي الدولة، وتتحكّم
بكل مفاصلها، ولا صوت يعلو فوق صوتها، تمارس السياسة والاقتصاد والتهريب والتجارة،
وحتى الدعارة. يعيش العراق اليوم في أزماتٍ متلاحقة، فلا الديمقراطية التي فصّلتها
الولايات المتحدة على مقاس من جاءت بهم عقب الغزو يمكن أن تُخرجه من واقعه، ولا الخيارات
الشعبية التي لجأ إليها العراقيون من أجل الخلاص نجحت في أن تقودهم إلى واقع أفضل،
خصوصاً في ظل تخلي الولايات المتحدة شبه التام عن تركتها الثقيلة في العراق لإيران
التي غدت اليوم لاعباً أساسياً في خريطة السياسة والاقتصاد العراقية.
أظهر استطلاع أنجزه أخيراً معهد غالوب
لشبكة بي بي سي لمعرفة آراء العراقيين بعد 20 عاماً من الغزو الأميركي أن أكثر من نصف
الشريحة المستطلعة آراؤهم قالوا إن العراق في ظل النظام السابق كان أفضل حالاً. وتلك،
لعمري، مفارقة غاية في الألم أن يرى العراقي نظاماً كان يوصف بالديكتاتوري، وفي ظل
حصار قاسٍ مارسه عليه العالم أجمع، بأنه أفضل من واقعه اليوم. ولك أن تتخيل أي واقع
يعيشه العراقي، حتى صار يتحسّر على زمن "الديكتاتور" وحزبه ونظامه الشمولي.
في أغسطس/ آب 2002، أي قبل غزو العراق
بنحو ستة أشهر، قال ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي حينها: "عندما تنتهي الأخطار
الكبرى، ويسقط نظام صدّام حسين، ستكون لدى الشعوب المحبّة للحرية في المنطقة الفرصة
لنشر القيم التي تحقّق السلام الدائم وتبنّيها، وذلك سيعزّز فرص السلام بين الإسرائيليين
والفلسطينيين". لعل الأمن الذي سعت له الولايات المتحدة من غزوها العراق هو فقط
ما يتعلق بأمن إسرائيل، التي بالفعل صارت اليوم أكثر من قادرة على التمدّد والتوسع،
ليس فقط في داخل الجسد الفلسطيني، بل أيضاً في داخل الجسد العربي الكبير.
في كتابهما المعنون "اللوبي الإسرائيلي"،
يتحدث البروفيسور جون مرشايمر وزميله ستيفن إم وولت، كيف تحوّل غزو العراق إلى هوس
لدى اللوبي الإسرائيلي في أميركا، حتى وصل الأمر إلى وصفه ديناً وليس مجرّد سياسة،
فلقد كان هذا اللوبي يعتقد أن عدم مهاجمة العراق عسكرياً سيعني نهاية أميركا. وقد قال
شارون، في جلسة مغلقة مع أعضاء الكونغرس الأميركي: "إذا نجحتم في التخلص من صدّام،
فستكونون قد أنهيتم الكثير من مشكلات إسرائيل الأمنية". ويبدو فعلاً أن هذا الغزو
ونتائجه التي نراها بعد 20 عاماً، إنما صُمم من أجل إسرائيل، ولا شيء غيرها. يكفي أن
ترى ما يجري من انتهاكاتٍ جسيمة في الأقصى، يكفي أن ترى التطبيع المتسارع مع هذا الكيان
من عدة دول عربية. يكفي أن ترى كل هذا الخَوَر العربي أمام مواجهة خطط دولة الكيان،
لتدرك جيداً أن غزو العراق كان بدفع إسرائيلي بالدرجة الأولى، والبقية تفاصيل ثانوية.
لم تعد بغداد اليوم وحدها محتلة، بل
أيضاً عواصم عربية أخرى، احتلال يتفاوت من واحدةٍ إلى أخرى، ويأخذ أشكالاً مختلفة أيضاً،
باختلاف المحتلّ، فهل أدرك العرب ماذا فقدوا بفقدانهم بغداد؟
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".