بين طوفان الأقصى وردع العدوان
كانون الثاني 25, 2025

أسامة الرشيدي

تجاهلت الإدارة السورية الجديدة إصدار بيان، بعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، بينما حرصت على توجيه تهنئة إلى الرئيس الأميركي المُنتخَب دونالد ترامب بمناسبة تنصيبه. حدث هذا التجاهل رغم أن الشعب السوري عبّر عن فرحته الكبيرة بتوقّف معاناة الشعب الفلسطيني في غزّة، مثلما عبّر الغزّيون قبل أسابيع عن فرحتهم بسقوط نظام الأسد، وهي مشاعر تلقائية متبادلة، تكشف أننا شعب واحد، وأن دعوات الانعزالية التي ظهرت في سورية أخيراً لا مستقبل لها، ولا تعبّر عن إرادة السوريين.

أكّد قادة الإدارة السورية الجديدة مراراً أن تخطيطاً طويلاً ومنظّماً استغرق نحو خمس سنوات سبق معركة ردع العدوان. لا جدال في ذلك، لكن التخطيط، كما هو معروف، يختلف كثيراً عن التنفيذ، فقد يظلّ المرء يخطّط لشيء ما، لكنّه لا ينفذه لأسباب شتى، تختلط فيها العوامل المادية بالمعنوية والنفسية والعاطفية. أبرز مثال لذلك ثورات الربيع العربي، فقد أشعل هروب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي خيال الشعوب العربية، إذ أدركت أنه من الممكن أن يؤدّي خروجهم إلى الشارع إلى إسقاط الديكتاتور، وأن تحقيق الأحلام ممكن. كان لهذا الخيال تأثير حاسم في قرار ملايين المصريين للتظاهر بدءاً من يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2011. إنها "عدوى السلوك" التي تصيب البشر عندما يرون أفعال أقرانهم.

يمكن القول إن "ردع العدوان" ينطبق عليها هذه العدوى، فهناك متشابهات كثيرة بين هذه المعركة ومعركة طوفان الأقصى، التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر (2023). انطلقت المعركتان في توقيت دقيق بالنسبة لكلّ منهما، فالتطبيع العربي مع إسرائيل كان ماضياً على قدم وساق، وكذلك التطبيع مع نظام بشار الأسد (!)، وكانت هناك تحضيرات للقضاء على ما تبقّى من المقاومة الفلسطينية، وكذلك المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية آنذاك. فقد أكّد الناطق العسكري باسم كتائب عزّ الدين القسّام، أبو عبيدة، أن معركة طوفان الأقصى كانت هجوماً استباقياً، وهو ما أكّده إعلام إسرائيلي كشف أن رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية (الشاباك) رونين بار، أقرّ خطّةً في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تقضي بتوجيه ضربة استباقية واغتيال أكبر ستة قيادات في قطاع غزّة، في مقدّمتهم قائد حركة حماس آنذاك يحيى السنوار، والقائد العام لكتائب القسّام محمد الضيف، وآخرون. وفي سورية، لم تتوقّف غارات النظام ومدافعه وطائراته المسيّرة عن قصف مناطق المعارضة، متسببةً في مقتل عشرات، فيما بدا وكأنّه تمهيد لهجوم نهائي يتوّج سيطرة بشّار الأسد على كامل البلاد.

المفارقة أن بعض السوريين كانوا يستنكرون معركة طوفان الأقصى بذريعة أنها "مجازفة" أدّت إلى مواجهة واحد من أقوى الجيوش في العالم، ومدعوماً إقليمياً ودولياً، ما أدّى إلى تدمير غزّة. المفارقة هنا أن هذا ينطبق على الثورة السورية بالضبط، فحتى صبيحة يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، كانت الثورة السورية تُهَاجم للأسباب نفسها التي هوجم "طوفان الأقصى" بناء عليها. كان الوضع بائساً ومأساوياً، أكثر من نصف الشعب السوري تحوّل إمّا لاجئين في تركيا والدول العربية والأوروبية، وإمّا نازحين داخل سورية، في مخيّمات لا تقيهم حرّ الصيف ولا برد الشتاء، فضلاً عن اعتراف دولي مستمرّ بالنظام، وتودّد تركي متواصل للأسد وسط رفض الأخير، ومدن مدمّرة، وكان سوريون عديدون يتحسّرون على الوضع، ويقولون: ليت الثورة لم تقم من الأساس، لأن ردّة فعل النظام أدّت إلى تخريب البلاد. لكننا اليوم نجد الأشخاص أنفسهم يلومون المقاومة على ردّة فعل الاحتلال الإسرائيلي، وهو تناقض عجيب.

المفارقة الأغرب أن هذا الرأي استمرّ حتى بعد انتصار الثورة السورية وهروب الأسد، فقد قال لي أحدهم، في معرض استنكاره للهجوم الاستباقي الذي شنّته المقاومة الفلسطينية: ألم ترَ ما فعله طوفان الأقصى في غزّة؟ وهو تساؤل يمكن الردّ عليه بتساؤل آخر مماثل: ألم ترَ ما فعلته الثورة السورية بسورية؟

التشابه الأخير، الذي يمكن الحديث عنه بين "طوفان الأقصى" و"طوفان سورية"، أنهما كشفا أن عدوهما "أوهن من بيت العنكبوت". فقد نفّذت المقاومة الفلسطينية فعلاً ما كانت تخطّط له بأفضل طريقة ممكنة، ليجد مئات الملايين من العرب أننا (نعم) نستطيع أن نهزم إسرائيل ببضع مئات من المقاتلين الشجعان، وأن الإقدام على الفعل سيخلط الأوراق، وسيفتح الباب أمام احتمالات وإمكانات هائلة للفعل والتأثير. هذا هو تأثير "طوفان الأقصى"، الذي لن يتوقّف عند الشام، بل سيمتدّ إلى دول أخرى لم يكن يتخيّل أحد أن يصل إليها. وإن غداً لناظره قريب.

المصدر : العربي الجديد

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".