د. وائل نجم
العمليات الأخيرة التي شهدها لبنان في المواجهة بين
حزب الله وقوات الاحتلال الإسرائيلي والتي تمثّلت بتفجير أجهزة الاتصال
"البايجر" بأيدي منتسبي حزب الله وأعضائه في كلّ لبنان، وبعد ذلك
الإغارة على اجتماع لقيادة "فرقة الرضوان" في عمق الضاحية الجنوبية معقل الحزب، واغتيال أغلب القادة في الفرقة ممن
كان حاضراً الاجتماع، ومن ثمّ بعد ذلك ردّ حزب الله على العمليتين من خلال قصف
مواقع عسكرية إسرائيلية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة قرب حيفا ومناطق أخرى،
واستخدام صواريخ جديدة لأول مرّة (فادي 1 و2) يُعدّ تطوّراً جديداً وخطيراً في
مشهد المواجهات بين الطرفين الدائرة منذ الثامن من أكتوبر / تشرين الأول 2023.
فمنذ الثامن من أكتوبر 2023 دخل حزب الله المواجهة مع
قوات الاحتلال الإسرائيلي من خلال الجبهة الجنوبية مع شمال فلسطين المحتلة على
قاعدة إسناد غزّة وتشتيت جهد الجيش الإسرائيلي واستنزافه في معركة أخرى، وتشكيل
ضغط على المستوطنين لدفعهم نحو الخروج على الحكومة الإسرائيلية للضغط عليها لوقف
العدوان على غزة والدخول في اتفاق لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى. فيما كانت
إسرائيل تحرص ابتداءً على عدم توسّع المواجهة وفتح جبهة أخرى، خاصة في بدايات
المعركة حتى لا يتشتت الجهد ويتوزّع الضغط، فكانت تلجأ إلى اعتماد سياسة القصف
المتبادل الذي لا يحوّل المواجهة في الجبهة مع جنوب لبنان إلى حرب واسعة ومفتوحة،
غير أنّ فشلها في تحقيق أهدافها في غزة، والمأزق الذي وجدت نفسها فيه جراء بسالة
وصمود المقاومة والشعب الفلسطيني، حوّل اهتمامها وبدّل أولوياتها للتفكير بتوسيع
الحرب وفتحها على مصراعيها من أجل خلط الأوراق وتوريط المنطقة كلّها بحرب واسعة
ربما تشكّل ضمانة بالنسبة لبقائها ووجودها من خلال ضمان تدخّل دول كبرى فيها
كالولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، ولذلك سعت القيادة الإسرائيلية الحالية إلى
توسيع رقعة المواجهات مع لبنان كمّاً ونوعاً وبشكل تدريجي لتحقيق هدف من اثنين:
إمّا إخضاع المقاومة اللبنانية لإرادة إسرائيل وشروطها ويمثّل ذلك انتصاراً يعوّض
فشل الجيش الإسرائيلي في غزة؛ وإمّا جرّ المنطقة إلى حرب واسعة تخدم مصالح إسرائيل
وقيادتها الحالية على وجه التحديد.
العمليات الأخيرة التي نفّذتها إسرائيل في عمق الضاحية
الجنوبية وعلى امتداد المناطق اللبنانية والتي شكّلت ضربات مؤلمة وموجعة لحزب الله
لا تخرج عن تحقيق واحد من الهدفين المذكورين؛ فإمّا أن يخضع الحزب لما تطلبه
إسرائيل، وهو بالمناسبة يبدو بسيطاً ويتلخّص بالتراجع من الحدود بضع كيلومترات إلى
ما وراء نهر الليطاني، ولكنّه في جوهره يمثّل هزيمة ستجعل سبحة الشروط والمطالب
الإسرائيلية تكرّ تباعاً، وهو ما يدركه الحزب جيداً ولذلك يرفض هذا الطلب ويصرّ
على المواجهة، بل يذهب مع كلّ مرة تخرج فيها إسرائيل عن قواعد الاشتباك والمواجهة
إلى تجديد هذه القواعد في محاولة منه للتهرّب من المواجهة المفتوحة والحرب الواسعة
لاعتبارات بعضها يتعلّق بالقدرة وبعضها يتعلّق بالوضع الداخلي اللبناني وبعضها
يتعلّق بالشأن الإقليمي والصراع الدولي؛ وفي محاولة لبناء قواعد اشتباك جديدة
تحافظ على توازن الردع وتمنع المواجهة من الانزلاق نحو الحرب الواسعة، لأنّه بذلك
يحافظ على قوته ويحافظ على استنزاف الجيش الإسرائيلي بشكل دائم دون أن يتكبّد هو
خسائر كبيرة.
بعد العمليات الأخيرة من كلا الطرفين بدأ كلّ طرف
منهما يشعر أنّ المواجهة بالشكل المعهود لم تعد تؤتي نتائجها المأمولة بالنسبة له،
وبدأ كلّ منهما يشعر أنّ جبهة جنوب لبنان مع شمال فلسطين أو العكس لم تعد جبهة
إسناد فحسب، بل باتت جبهة تقرّر مصير المنطقة بشكل عام. إسرائيل ترى أنّ استمرارها
بهذه الوتيرة يهدّد أمن ووجود كيان الدولة وليس مستوطني شمال فلسطين فقط؛ فضلاً عن
أنّ نتنياهو يريدها لأنّه يدرك أنّ توقف الحرب يعني فتح ملفاته أمام القضاء في
مواضيع الفساد وغيرها. وحزب الله يرى أنّ نوايا إسرائيل بالتخلّص منه باتت واضحة
ومكشوفة أكثر من أي وقت مضى، خاصة وأنّ ظروفاً كثيرة تساعد القيادة الإسرائيلية
الحالية على المضي قدماً في حربها عليه على الرغم من حالة الجيش المنهك من حربه في
غزة، ولذلك فإنّ الحزب بات معنيّاً بتصعيد المواجهة عل قاعدة فرض قواعد اشتباك
جديدة لا تُخرج الأمور إلى حرب واسعة، ولا تسمح لإسرائيل بفرض ما تريد، وتُبقي على
حالة الاستنزاف قائمة بالنسبة للجيش الإسرائيلي. بهذا الاعتبار لدى كلا الطرفين
فإنّ جبهة جنوب لبنان مع شمال فلسطين باتت الآن في مركز الحدث الذي يصنع مستقبل
المنطقة من دون أن يعني ذلك أنّ غزة قد انتهت، فطالما المقاومة مستمرة هناك فإنّ
كلمة الفصل ستبقى هناك أيضاً.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".