جدلية النصر والهزيمة في الحرب على غزة
شباط 02, 2025

د. طارق الهاشمي *

تحديد المنتصر او المهزوم في الحروب عملية معقدة، تتجاوز في كثير من الأحيان، الحسابات المباشرة للخسائر البشرية والمادية، بل يُنظر إلى النصر أو الهزيمة بناءً على الأهداف الاستراتيجية التي يسعى كل طرف لتحقيقها، وعلى هذين الأساسين، وحالما توقف إطلاق النار في الـ 19 من يناير / كانون ثاني الجاري انطلقت سجالات لا تنتهي، وانقسم المحللون في تقييم نتائج الحرب على غزة، بين حركة حماس من جهة والكيان الصهيوني من جهة اخرى، ولابد ان يكون احدهما قد انتصر، لتكون حصة الآخر الهزيمة، وكانت لي مساهمة في هذا المجال.

لكل حرب اهداف محددة، واضحة المعالم، قابلة للقياس، وفي هذا الاطار، وكان رئيس الوزراء نتنياهو قد اعلن في 8 اكتوبر 2023 ان الحرب على غزة أغراضها:

*القضاء على حركة حماس كحركة سياسية وعسكرية.

*تحرير الرهائن (الاسرى) لدى حماس.

*ضمان أمن المدنيين.

*استعادة الردع.

لا نذهب بعيدا في التحليل بل يكفي ان نتوقف عند شروط الاتفاق الاخير حول وقف إطلاق النار وتبادل الاسرى لنرى دون لبس كيف خضع الكيان الصهيوني لمعظم شروط المقاومة التي كان يكابر في الإصرار على رفضها!

وأليس المنتصر ولا غير، هو من يفرض شروطه على الاخر قبل ان يستقر غبار المعركة؟.

ان أي مراجعة لمسرح العمليات في غزة تشير دون لبس ان إسرائيل فشلت في تحقيق أغراض الحرب! والبعض يعتبرها كانت طموحة جدًا، وانها لم تكن واقعية حيث يستحيل تحقيقها ويتعذر قياسها! بعد ان واجه جيش الاحتلال تحديات كبيرة على الأرض، تمثلت في صمود الغزيين الأسطوري وبرهنتهم على قدرتهم الهائلة بالتحمل، ناهيك عن بسالة المقاومة من جهة، واستعداد الحاضنة من جهة اخرى لرفدها بالمزيد من المقاتلين المدربين، بالرغم من الخسائر البشرية الكبيرة التي تعرضت لها كتائب عز الدين القسام والتي فقدت العديد من قيادات الخط الاول من السياسيين والعسكريين، لكن حماس رغم ذلك لم تنهر او تستسلم، وثبت لدى الجميع قدرتها المتميزة في التعويض عن الخسائر في وقت قياسي، لهذا لم يتراجع عدد المقاتلين اطلاقاً.

وللدلالة على استمرار فاعلية فصائل كتائب عز الدين القسام، فإنه حتى قبل خمسة ايام اي في 13/1 من وقف اطلاق النار قامت الفصائل بتنفيذ عملية مركبة حيث تمكن مجاهدو القسام من الإغارة على مبنى تتحصن بداخله قوة صهيونية مكونة من 25 جنديا والتعامل معها بمختلف أنواع الأسلحة وإيقاع جميع افراد القوة بين قتيل وجريح.

* من جهة اخرى، كان امن المدنيين الصهاينة، أحد الأهداف المعلنة والقصد كان إعادة الامن للمستوطنات الجنوبية التي تعرضت لهجوم مباشر واحتجاز رهائن من خلال صولة طوفان الأقصى. حيث سعى جيش الاحتلال من خلال العملية العسكرية للقضاء على تهديد الصواريخ والقذائف التي تطلقها حماس والفصائل المسلحة الأخرى في غزة.

لكننا نتذكر انه في 3 /1 يناير، انطلقت رشقة صاروخية من طراز Q18 من غزة رداً على المجازر الصهيونية بحق المدنيين اطلقتها كتائب القسام على مغتصبة (نتيفوت) و3 صواريخ استهدفت مغتصبة (سيدروت).

كما في اليوم 458 من العدوان على غزة اي في 6/1 اي قبل 12 يوما من وقف اطلاق النار واصلت المقاومة في غزة إطلاق رشقات صاروخية تجاه الكيان الصهيوني.

دليل واضح على ان عدوان 15 شهرا لم يقضي على القدرة الصاروخية لكتائب القسام، وبالتالي لا أمان قد تحقق لمغتصبات غلاف غزة.

* وبالنسبة للردع، فهل استعاده جيش الاحتلال بعد فضيحة 7 اكتوبر؟ سؤال كبير، ربما يفسر الهجمة المجنونة على غزة، والذي حصل بعد الهجوم الكبير الذي شنته كتائب عز الدين القسام في اطار طوفان الأقصى، واخترقت فيه الجدار الأمني وألحقت خسائر كبيرة، في صفوف فرقة غزة والأجهزة الامنية، ضمّن نتنياهو قائمة اهداف الحرب (استعادة قوة الردع) على المدى الطويل حيث شدد على ضرورة إعادة ترسيخ الهيبة العسكرية لجيش الاحتلال كقوة (لا تقهر) بالغة التفوق في المنطقة لتجنب تكرار مثل هذا الهجوم، لهذا أوغل الصهاينة وأسرفوا بالقتل والتخريب والتدمير، و في اغلب الاحوال دون حاجة تكتيكية ميدانية مباشرة، واستخدموا لذلك احدث ما بلغته التكنلوجيا العسكرية من أسلحة متقدمة ومتفجرات، لقد كان الغرض على الدوام استعادة الهيبة للجيش المهزوم، فهل حقق جيش الاحتلال غرضه؟ الجواب على ذلك كلا، 85 الف طن من القنابل والمتفجرات ألقيت على غزة على مدى 15 شهر، اي ما يعادل خمس إلى ست قنابل نووية، قتلت اكثر من 61 الف واصابت وجرحت ما يزيد على 110 الاف كما دمرت ما يزيد على 88% من غزة بين وحدة سكنية وجامع ومستشفى وصرف صحي ومدرسة ودائرة حكومية، خسائر تقدر بحوالي 38 مليار دولار، وعلى الرغم من التصعيد الإسرائيلي، لم ينجح الكيان الصهيوني في ترسيخ ردع دائم، حيث استمرت جولات التصعيد لاحقًا. كما اهتز الردع الإسرائيلي بسبب طول أمد الحرب والخسائر البشرية على الجانبين. مقابل ذلك استمرت المقاومة لآخر لحظة، بينما رفض الغزيون ان يتزحزحوا قيد انملة عن ارضهم وفضلوا الموت شهداء على الهجرة من جديد، فأين هو الردع المزعوم؟.

* واخيراً، تحرير مئات الرهائن الذين أسرهم مقاتلو حماس خلال الهجوم على المستوطنات الإسرائيلية كان هدفًا رئيسيًا ومعلنًا، حيث وصفه نتنياهو بأنها أولوية قصوى تتطلب عمليات عسكرية واستخباراتية مكثفة. كانت الخطة التي لم يتنازل عنها نتنياهو على مدى 15 شهرا هي ان يقتل ويدمر أقصى ما يستطيع من غزة على امل ان ترضخ حماس لشروطه وتستجيب لإطلاق سراح الاسرى، ودون ثمن! لكن الذي حصل هو العكس، مفاوضات مباشرة مع حماس والتعامل معها ليس كفصيل مقاوم بل كدولة، واستجابة كاملة لشروطها، سواء في عدد المطلق سراحهم وما يقابلهم من أسرى فلسطينيين، او توقيتات ومراحل إطلاق سراح الاسرى، الصفقة الأخيرة والتي خرج بسببها العديد من الوزراء الصهاينة باكيا لا عتبارها (مذلّة)!.

* في هذا السياق، فإن تمييز المنتصر من المهزوم في الحروب عملية معقدة تتجاوز الحسابات المباشرة للخسائر البشرية والمادية. وفي كثير من الأحيان، يُنظر إلى النصر أو الهزيمة بناءً على الأهداف الاستراتيجية التي يسعى كل طرف لتحقيقها، والمهزوم هو من يفشل في تحقيق أهدافه أو يضطر إلى تعديلها بشكل كبير أو التراجع عنها، وهذه حالة الكيان الصهيوني.

من جهة اخرى، فإن عامل الخسائر مهم، لكنه ليس العامل الوحيد. أحيانًا، يتحمل الطرف المنتصر خسائر كبيرة لتحقيق أهدافه، مثل الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثاني، الحلفاء انتصروا عسكريًا لكن الاتحاد السوفيتي خرج بحصيلة مادية وبشرية كارثية رغم كونه (منتصرًا).

وفي حرب فيتنام، الولايات المتحدة كانت متفوقة عسكريًا إلى حد كبير لكنها انسحبت دون تحقيق أهدافها السياسية، مما أدى لاعتبارها مهزومة.

من جهة اخرى، تعرضت الجيوش العربية في 5 حزيران عام 1967 إلى هزيمة منكرة، انكسرت الجيوش وبقيت الإرادة، وترجمت في لاءات الرفض الثلاث التي توحد القادة العرب عليها في مؤتمر قمة الخرطوم العربية.

* الكيان الصهيوني، لم يعجز عن تحقيق أهدافه فحسب، بل تحمل في هذا السبيل خسائر هائلة وغير مسبوقة، في القطاعين العسكري والمدني، والاهم من كل شيء ان جيشه فقد الردع كما فقد الكيان الامن، والسمعة والوجاهة في العالم اجمع، واهتزت امام الحلفاء قدرته كحام لمصالح الغرب، بعد ان ثبت انه دون حماية ودعم الولايات المتحدة واوروبا فإنه لا يستطيع ان ينهض بمتطلبات الامن لوحده للدفاع حتى عن نفسه، فضلاً عن كونه حاميا وضامناً لمصالحهم.

هل هذا يعني ان حركة حماس انتصرت؟

الكيان الصهيوني قتل الالاف من المقاومين، والمدنيين العزل، نساء ورجالا، شيوخاً وأطفالاً وشباباً، كما دمر غزة كحاضرة، فاتورة ضخمة تلك التي دفعتها غزة، على أمل كسر (ارادة المقاومة) وفرض الاستسلام عليها، لكنه عجز واعترف، لهذا لم ترفع غزة الراية البيضاء ولم تستسلم، وهذا هو النصر بعينه، وهو بالتأكيد لا يشبه النصر التقليدي المعروف في الحروب، بالنظر لأن المنازلة فريدة، غاب فيها عامل التوازن بين الفريقين، وتفوق فيها جيش الاحتلال بشكل مطلق على ترسانة المقاومة وإمكانياتها، في هذه الحالة يكفي ان يكون (النصر على شكل حرمان العدو من تحقيق أهدافه من الحرب) وهذا ما حصل.

الدكتور ميخائيل ميليشتاين الخبير بالشأن الفلسطيني قال: الدمار خاصة في منطقتي جباليا وبيت حانون غير مسبوق، وكان من المفترض نظرياً ان يدفع حركة حماس إلى التنازل او المرونة لكن هذا لم يحدث، اعتقد ان بعضنا حتى بعد 7 اكتوبر لم يفهن DNA الخاص بحركة حماس.

ويبقى إلى جانب ما سبق، مسائل لابد من اخذها بنظر الاعتبار، وهي لازالت في علم الغيب، وتعني بالأوضاع المستقبلية في غزة وفي عموم الأراضي الفلسطينية، بكلمة اخرى فيما إذا كان طوفان الأقصى في 7 اكتوبر قد حقق اختراقا تاريخيا في القضية الفلسطينية على جميع الصعد، وهو الأرجح، ام ان القضية تراجعت بفعل الخسائر الهائلة التي تعرضت لها غزة والتي صمد ازاءها الغزي ولم يستسلم.

* نائب الرئيس العراقي السابق

المصدر : جريدة الشرق القطرية

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".