إياد الدليمي
وصف الكاتب الأميركي مايكل نايتس الوضع
في العراق بأنه يتداعى بهدوء، في ظل سيطرة المليشيات التي تدعمها إيران على السلطة
في بغداد، وأثر ذلك في تمزيق أحشاء الجسد العراقي المتهالك أصلا، والذي يسعى إلى استعادة
عافيته بعد 20 عاما من القتال والموت والدمار. كتب نايتس، في مقال في مجلة فورين أفيرز،
أن الناظر إلى بلاد الرافدين يشعر وكأنها في طريقها إلى الاستقرار، حتى أن المليشيات
المدعومة من إيران خفّضت من مستوى التصعيد مع الولايات المتحدة، وهناك اليوم حكومة
تبدو فاعلة، وتراجعت الهجمات الإرهابية في البلاد بشكل ملحوظ، غير أن نايتس يقرع ناقوس
الخطر بقوة، فالعراق، كما يراه صاحب المقال، يقوده ثلاثة من أخطر الرجال، زعيم مليشيا
عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، ورئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، وزعيم منظمة بدر،
هادي العامري.
هذه السيطرة الثلاثية المطلقة عزّزها
تأسيس شركة "المهندس" التابعة للحشد الشعبي الذي يضم فصائل مسلحة موالية
لإيران، حتى تكتمل الهيمنة بشقّيها، السياسي والاقتصادي، فالشركة التي جاءت على غرار
شركة خاتم الأنبياء في إيران التي أسّسها الحرس الثوري عام 1990، تهيمن اليوم على جزء
كبير من الاقتصاد العراقي، واستطاعت أن تستحوذ على مساحاتٍ شاسعة في جنوب العراق لغرض
الاستثمار، ناهيك طبعا عن أراضٍ حيوية ومهمة في العاصمة بغداد ومحيطها.
ليست الصورة وردية في العراق، هذه حقيقة.
هناك محاولات للتعافي والعودة إلى الوضع الطبيعي وتحويل العراق إلى بلد جاذب للاستثمارات،
غير أن مراجعةً سريعةً لطبيعة المهيمن على الواقع العراقي، السياسي والاقتصادي، تجعل
هذا التفاؤل الذي يحاول بعضهم أن يطلق له العنان، مبالغا به، بل حتى سوداويا ومتشائما.
ولا يمكن إنكار حالة الهدوء والاستقرار في العراق، وهي نتاج السماح لقوى "الإطار
التنسيقي" بتشكيل الحكومة عقب انسحاب مقتدى الصدر من العملية السياسية والبرلمان،
بعد المواجهات المسلحة في المنطقة الخضراء وسط بغداد في أغسطس/ آب الماضي. يومها كان
الوضع قابلا لانفجار شرارة مواجهاتٍ لا تُبقي ولا تذر، غير أن فشل العملية المسلّحة
التي قادها الصدر للانقضاض على خصومه الشيعة في تلك الليلة دفعت به إلى التراجع والانسحاب
وإفساح المجال أمامهم لتشكيل حكومتهم.
نجحت الحكومة الإطارية في خفض التوتر
في مختلف مناطق العراق، ونجحت في سحب فتيل أزمات متلاحقة كانت ستضرب العراق من أقصاه
إلى أقصاه، غير أنها، في الوقت ذاته، أكّدت حقيقة واحدة، أن الشركاء الشيعة من القوى
الإطارية لا ينبغي الوثوق بهم بالنسبة لشركاء العملية السياسية، سواء من الصدريين أو
السُنة أو من الأكراد. ولعل مناقشة الموازنة الثلاثية (2023 - 2024- 2025) ونقض القوى
الإطارية تعهّدات سابقة قطعتها للقوى الكردية، خير مثال على ذلك، بالإضافة طبعا إلى
جملة من الوعود التي قطعوها للعرب السُنة بشأن عودة النازحين وسحب المليشيات وغيرها،
وكلها بقيت حبراً على ورق.
تملك هذه القوى الإطارية اليوم المال
والسلطة والإعلام، وهي تحظى بدعم دولي كبير وواسع، على اعتبار أن هذا الدعم موجّه إلى
الحكومة العراقية التي يشترك بها الجميع، غير أن واقع الحال يؤكّد أن هذه القوى الإطارية
لن تقبل التنازل عما تحقّق لها من مكاسب، فلا الانتخابات التي قد تجرى بعد عامين قادرة
على نزع السلطة من يد الإطاريين، كما حصل مع انتخابات 2021 يوم سحقهم التيار الصدري
بأصوات الناخبين، ولا التفاوض مع هذه القوى الإطارية المهيمنة على السلطة في بغداد
يمكن أن يضمن حقوق أيٍّ من المكوّنات العراقية الأخرى.
يفتح ذلك كله الباب واسعا أمام المخاوف
من أن مستقبل العراق على المحكّ، مع تجدّد أي تهديد لسلطة "الإطار التنسيقي".
صحيحٌ أن قوى الإطار تعمل ليل نهار على دفع أفرادها إلى التغلغل داخل جسد المؤسّسة
العراقية، لكن ذلك لا يعني أن بقية القوى المشاركة في العملية السياسية من شركاء
"الإطار" قد وقّعوا لهم على شيك أبيض لفعل ما يريدون، خصوصا مع تجدّد الخلافات
بين هذه القوى والسكون غير المفهوم لمقتدى الصدر وتياره.
تم إقرار موازنة العراق للسنوات الثلاث
بما فيها هذه السنة، وهي موازناتٌ كبيرة جدا، ومعها يجتهد "الإطار التنسيقي"
لترتيب وضعه الاقتصادي وكسب الدعم، سواء الداخلي أو الخارجي، من دون حسابٍ للعواقب،
حيث تفيد أرقام بأن الحكومة الحالية فتحت باب التوظيف لأكثر من نصف مليون عراقي، وهناك
من يزيد العدد إلى نحو 800 ألف، مع احتساب سعر برميل النفط في الموازنة الثلاثية على
70 دولارا، فما الذي يمكن أن يحصل في حال تراجعت الأسعار؟ حيث تؤكّد دراسات اقتصادية
كثيرة أن العراق حينها لن يتمكّن من دفع ربع رواتب موظفي الدولة، ناهيك طبعا عن استمرار
تأرجح التيار الكهربائي في المحافظات العراقية، مع دخول الصيف اللاهب وانقطاع إمدادات
الغاز الطبيعي المشغل محطات توليد الكهرباء من إيران، بالإضافة إلى جفاف مائي يعاني
منه العراق، يتوقع أن يزداد في فصل الصيف.
تبدو هذه صورة قاتمة لوضع يحاول القائمون
عليه أن يجمّلوه بأقصى ما لديهم من ماكينة إعلامية تعمل ليل نهار على مختلف وسائل الإعلام
والمنصّات الرقمية. من هنا يبدو أن تداعي العراق الهادئ قد يكون صاخبا، خصوصا أن القوى
الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ومعها قوى إقليمية في المنطقة، تراهن على استقرار
الوضع في العراق، وتعمل على ذلك بقوة. وتجنّبا للسيناريو القاتم، على الحكومة العراقية،
برئاسة محمد شياع السوداني، أن تفكّ علاقتها مع قوى الإطار التنسيقي. قد يبدو ذلك كلاما
إنشائيا أو أمنياتٍ لا مجال لتحقّقها، غير أنه السبيل الوحيد لإنقاذ العراق من تداعٍ
هادئ مصحوبٍ بكثير من الصخب.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".