سمير الزبن
لم يتفوّق ما حدث في عملية طوفان الأقصى
على كل تقدير فحسب، بل تفوّق على كل خيال أيضاً. فلم يتخيّل أحدٌ، ولا في إسرائيل ولا
خارجها، أن مقاتلي حركة حماس بأسلحتهم المتواضعة، قد يهاجمون أقوى قوة عسكرية في المنطقة،
والمحصنة بالجدران العازلة وكاميرات وأدوات المراقبة عالية الدقة والتقنية، ووراء هذه
الجدران، جيشٌ بأحدث العتاد في العالم من دبّابات وطائرات حربية وطائرات تجسّس، وتملك
أجهزة أمنية واستخباراتية بشرية وتقنيات تجسسية تصدرها إلى الآخرين. انهار ذلك كله
في ساعات أمام وسائل قتال بسيطة، طائرات شراعية متواضعة، زوارق بدائية، بنادق عادية،
درّاجات نارية، وقاذفات آر بي جي، جاؤوا من قطاع غزّة المحاصر منذ سنوات طويلة، تعرّض
خلالها لاعتداءات إسرائيلية في عدة حروب شرسة خلال سنوات حصاره. ومن وسط هذا الحصار،
جاء المقاتلون الذين يملكون الإرادة للردّ على الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تنتهي،
ليذلّوا المؤسّسة العسكرية وحكومة نتنياهو الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل.
رغم ما نعرفه اليوم عن هذه العملية،
فإن أبعادها وتفاصيلها، لن تُعرف قبل وقت من توقّف الحرب الإسرائيلية المجنونة على
قطاع غزّة. فقد ترك الطوفان، الذي اجتاح فيه مقاتلو "حماس" بلدات غلاف غزّة،
الوحدة العسكرية الإسرائيلية للمنطقة محطمة ومذلة ومهانة. وهاجموا عشرات المستوطنات
في الغلاف، مخلفين أكثر من 1300 قتيل إسرائيلي، وعشرات الأسرى الذين تم اصطحابهم إلى
داخل قطاع غزّة. وهي الخسارة الأكبر التي تُمنى بها إسرائيل في تاريخها بعد التي تكبدتها
في حرب العام 1973، وهي حرب مع بلدين عربيين، مصر وسورية.
ترك "طوفان الأقصى" إسرائيل،
بكل مستوياتها، مجتمعاً وحكومة ومؤسّسة عسكرية في حالة الصدمة، وكان الطوفان عنواناً
لفشل إسرائيلي على كل المستويات، حيث المؤسّسة العسكرية التي تتباهى بها إسرائيل، لم
تستطع حماية مواطنيها، ولم تستطع حماية نفسها من الهجوم الكاسح الذي أذلّها في مكمن
قوتها أيضاً.
إسرائيل الغاضبة والمهانة والمذلّة
لا تعرف كيف ترد على هذه الهزيمة التي منيت بها، فلا أهداف عسكرية كبيرة ولا حشود من
الجنود في غزّة من الممكن استهدافها، فبنك الأهداف العسكري في قطاع عزّة فقير جداً
أمام آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة، لا بنى تحتية ولا آليات عسكرية ولا مواقع عسكرية
يمكن أن تستهدفها طائرات إسرائيل الحربية وزوارقها ودبّاباتها، لذلك، لا تجد إسرائيل
سوى السكّان المدنيين الذين تستهدفهم وتعمل بهم قوتها العسكرية، بذريعة أن مقاتلي
"حماس" يتخفّون بينهم.
لقد حدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي،
بنيامين نتنياهو، الهدف من حربه الجديدة على قطاع غزّة بالقضاء على حركة حماس. وهذه
المرّة الأولى التي تحدّد إسرائيل هدفاً أكبر من قدرتها على التنفيذ، وهو عكس ما كان
يحصل. ومقارنة بحرب العام 1982، حدّدت إسرائيل الهدف بإبعاد قوات منظمة التحرير عن
الحدود الإسرائيلية في ما عرف بعملية سلامة الجليل، والتي لم تعلن إسرائيل حينها أنها
في "حالة حرب"، ولكنها تدحرجت وصولاً إلى احتلال قواتها بيروت، والبقاء عالقة
في جنوب لبنان حتى العام 2000.
في حربها المسعورة على غزّة، أعلنت
إسرائيل بأنها في "حالة حرب"، وهي حالة لم تعلن عنها منذ حرب 1973، وهو يعني
أن إسرائيل ستذهب بعيداً في حربها على غزّة، والتي قد تتدحرج إلى لبنان، فالحرب على
غزّة لا تحتاج منها إلى استدعاء 360 ألف جندي احتياط، وهو العدد الذي استدعته إسرائيل
في حربها الحالية، وهذا يعني وجود تقديرات إسرائيلية بأن حزب الله سينضم إلى هذه الحرب،
أو أن إسرائيل ستجرّه لدخولها، على اعتبار أن الوضع مواتٍ اليوم في ظل حالة الغضب الداخلية
الإسرائيلية والغطاء الدولي والانحياز السافر والأعمى لإسرائيل، ما يسمح لها بارتكاب
جرائم حرب هائلة من دون مساءلة دولية، بسبب الدعم الأميركي كل ما تريده إسرائيل، وهي
التي تعمل اليوم حاجز صدٍّ سياسيا ودبلوماسيا في المنطقة والعالم، لقمع أي رد فعل غير
مرغوبٍ فيه على الحرب الإسرائيلية بالغة الوحشية. ويأتي تشبيه ما جرى في غلاف غزّة
بالهولوكوست وبـ "11 سبتمبر" الأميركي، ومساواة حركة حماس بـ"داعش"،
وبالمقارنة بين عدد القتلى في "11 سبتمبر" وما حدث في غلاف غزّة، تكون إسرائيل
قد خسرت عشرة أضعاف ما خسرته الولايات المتحدّة، ما يعني أن حرب استئصال هائلة بانتظار
غزّة وقد تمتد إلى لبنان، لأن إسرائيل في حربها لا تشيطن "حماس" فحسب، بل
تشيطن كل الفلسطينيين، وبذلك يصبح الجميع يستحق القتل.
إبلاغ إسرائيل الأمم المتحدة إن على
سكان شمال غزة المغادرة إلى جنوبها، وهذا يشمل أكثر من 1.1 مليون فلسطيني، ويشكل هذا
العدد أكثر من نصف سكان غزّة، والقصف الإسرائيلي العنيف الذي تتعرّض له الأماكن السكنية
تستهدف هذا التهجير. وذلك كله يعني أن إسرائيل تسعى إلى اجتثاث سكّان غزّة وليس
"حماس" وحدها، وأنها ستدمّر شمال غزّة بسياسة الأرض المحروقة، والتي من الواضح
أنها ستدخلها برّياً خالية من سكّانها بترحيلهم، ومن يبقى سيعدّ جزءاً من مقاتلي
"حماس"، ويتعرّض للقتل كما أعلنت قيادات إسرائيل.
ليس ما تقوم به إسرائيل حرباً على غزة،
بل هي جرائم حرب موسّعة بذريعة الدفاع عن النفس، تريد أن توقع نكبة جديدة بالفلسطينيين
انتقاماً لما جرى، إنها تخوض حرب تجريفٍ لسكّان غزة، أمام أعين العالم، الذي لا يسكت
هذه المرّة عن جرائمها، بل يقف معها ويؤيدها ويغطّي جرائمها بتأييد الرواية الإسرائيلية
من أكاذيب، عن قطع رؤوس الأطفال وحرق المدنيين، وهي ما يؤسّس لجرائم واسعة مدعومة من
الولايات المتحدة، والتي تشكل جرائمها في العراق وأفغانستان نموذجاً يُحتذى، وستزيد
إسرائيل عليها كثيرا من الدماء والتهجير.
كل الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل وترتكبها
اليوم وسوف ترتكبها، ورغم كل التأييد الدولي لها، وطالما هي لا تريد أن ترى الفلسطينيين
وحقوقهم في وطنهم، وتريد أن يكونوا دريئة للقتل فقط، كما كل حروبها مهما بلغت وحشيّتها،
لن تجلب لها الأمن، بل ستزيد الغاضبين الفلسطينيين، والذين سيعملون على ضرب أمن إسرائيل
المرّة بعد الأخرى.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".