غازي دحمان
هزمتنا
غزّة، بخدّجها وأطفالها ونسائها، وبكاء رجالها وهم يودّعون أحبتهم، وهم يتوسّلون الأطباء
إنقاذ أطفالهم. سحقتنا غزة بشرا وأذلتنا عربا، بتوحّش زعران إسرائيل وموت ضمير العالم.
هل يُعقل أن ترسانة القوانين الدولية، وهذا الكم الهائل من التنظير الأخلاقي العالمي،
لم يستطع إنقاذ خُدّج غزّة، ولا يوفر قطرة ماء لأطفالها العطشى؟
ولكن
حرب غزّة، أيضا، حوّلت مفاهيم ومسلّمات وقيم إلى مجرّد غبار، فقدت تماسكها ومنطقها،
بعدما كشفت أنها بالأصل لم تكن قد تجاوزت مرحلة الخداج، رغم ادّعاء الخبرة البشرية
المديدة في إدارة الأزمات، ودرجة التحضّر والتنظيم التي وصلت إليها البشرية وتحميها
من الانزلاق إلى السلوك الهمجي، وتردع كل من يحاول التصرّف بخلاف ذلك، كل ما سبق لم
يكن سوى عدّة تنظيرية كشفتها حمم قنابل إسرائيل على جسد غزّة.
لعل
أول ضحايا حرب غزّة هو المجتمع الدولي، ذلك أن هذا المصطلح لم يعد له وزن، لا واقعي
ولا أخلاقي، ما دام لم يمتلك القدرة على إنقاذ أكثر من مليونين من البشر يجري التنكيل
بهم تحت نظره وسمعه، وكان يُحكى في السابق عن عجز المجتمع الدولي عندما يجري الحديث
عن فشل التوصل إلى حلّ للقضية الفلسطينية، رغم وجود قرارات واضحة وصريحة عن مجلس الأمن،
تحدّد شكل الحل وطبيعته، لكننا اليوم أمام حالةٍ أكبر من العجز، بل حالة موات فعلي
ومعلن، صحيحٌ أن شوارع كثيرة في العالم شهدت مسيرات شعبية غاضبة على حفلة الجنون الإسرائيلية،
لكن هذا رأي عام، أما المجتمع الدولي فهو نادي الحكومات والدول.
العالم
العربي هو الضحية الثانية الذي آن أوان تأبينه، وقد ثبت، بالملموس والمؤكّد، أنه قد
خرج من دائرة الفعالية منذ زمن بعيد، وما يوجد اليوم ليس سوى دول ناطقة بالعربية لكل
منها مشاريعها المنفصلة وتوجّهاتها المختلفة. أما ما يُقال عن سياساتٍ وتوجّهاتٍ عربية،
فهي لا تعدو أن تكون قوالب إعلامية ليس لها ما يوازيها من أفعال وسلوكيات على أرض الواقع.
لو كان هناك فعلا عالم عربي لما استطاع الصهاينة التنمّر عليه جهارا نهارا، ولو كان
هناك عالم عربي من المحيط إلى الخليج لضغطت واشنطن بكل قوتها على إسرائيل، أقلّه لتحييد
المدنيين عن الحرب الشعواء التي تشنّها على غزّة، أو حتى لحماية المستشفيات، وعدم انتظار
حكومة نتنياهو، التي يشكو الإسرائيليون أنفسهم من تطرّفها، حتى تأتي بالدليل القاطع
على وجود قيادات "حماس" داخل المستشفيات.
ربما
من الصعب معرفة النتائج النهائية للحرب في غزّة، وطبيعة المشهد والمُخرجات التي ستؤول
إليها هذه الحرب، لكن الأكيد أن هناك تحوّلا خطيرا في موازين القوى على الصعيد الإقليمي
لصالح إسرائيل وأميركا، بعدما تم التسليم لهما بإدارة الحرب على هواهما، كما أن هناك
مشهدا جديدا للقضية الفلسطينية يجري العمل على إخراجه، بناءً على معطيات الواقعين العربي
والدولي الراهنين، فهذه فرصةٌ مثاليةٌ لإعادة تركيب الموضوع الفلسطيني وإعادة تعريفه
بناء على المؤثرات الإسرائيلية والأميركية الجديدة، بوصفهما اللاعبين الأكثر قدرة في
الوقت الحالي على التأثير والفعالية.
وسيتم
رسم أدوار الأطراف الأخرى وحدودها ومدى فعاليتها بناء على حجم تجاوبها مع التحوّلات
التي سيصنعها الطرف المذكور، الذي لديه القدرة الكبيرة على دمج خططه ومشاريعه في سياق
هندسات إقليمية ودولية يجري العمل عليها، وخصوصا أن المنطقة في المرحلة الحالية تقع
تحت تأثيرات مشاريع جيوسياسية ضخمة، تنخرط فيها أطراف إقليمية عديدة، ولهذه المشاريع
عدّتها القيمية وتفضيلاتها الاقتصادية وما تعد به من طموحاتٍ تصل الى حد القبض على
عنق التجارة الدولية، عبر التحكّم بممرّاتها وسياقاتها. وبالتالي، تصبح حرب غزّة مادة
قابلة للنظر إليها من زاوية الأثمان المحتملة لمشاريع كبيرة.
وستحتاج الشعوب العربية بعد غزّة إلى
عيادة نفسية لتساعدها على التخفّف من أحمال الحزن والذلّ والإحساس بانعدام الوزن والضعف
الهائل، فكيف سيتم جبر خواطرها، هل ستلحظ السياسات التي سيتم تصميمها، والتي تأتي تحت
عنوان "اليوم التالي لغزة بعد الحرب"، هذا البعد؟ بمعنى هل سيصار إلى اقتراح
مبادرات ومسارات جديدة للحلّ على شاكلة اتفاقيات السلام في تسعينيات القرن الماضي في
الشرق الأوسط على خلفية الحرب في العراق، أم أن الأمر لن يصل إلى هذا الحد، وسيتم إسناد
مهمة جبر خواطر الشعوب للأنظمة السياسية، والتي يمكن أن تقاربها بسياسات أكثر تشدّدا
وقمعا، على اعتبار أن الشعوب العربية لا يليق بها التدليل والتدليع؟
المؤكّد أن حرب غزّة حملت إجابات لأسئلة
طرحتها جروح مفتوحة على مدار عقد مضى، شهد سحق أحلام الملايين وطموحاتهم، بل وقتل الملايين
وتشريدهم، عن الضمير العالمي وأخلاق السياسة، والأهم من ذلك كله عن المخارج من هذه
الانسدادات الرهيبة التي وصلت إليها الأمور، وعن عالم يتغنّى صباحا بتحضّره ويتوافق
في المساء مع طغاة الأرض بذريعة الواقعية طوْرا والمصالح دائما. آن لنا الخروج من حالة
الخداج السياسي، ونتعلم من الدرس العسكري الذي يقول إن الوقوف في مدى رماية الدبّابة
انتحار مجاني، والأفضل دائما استخدام الزوايا العمياء والخواصر الرخوة، سواء كان الخصم
مستبدّا داخليا أو عدوّا خارجيا.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".