ذكرى الاستقلال .. لبنان في مهبّ المجهول!
تشرين الثاني 23, 2023

د. وائل نجم

أتت الذكرى الثمانين لاستقلال لبنان عن الاحتلال الفرنسي هذا العام يتيمة، باهتة، ومن دون أفق معروف. فلبنان الذي كان ذات يوم يُسمّى بـ "سويسرا الشرق" لتقدّمه وازدهاره واستقراره واقتصاده القوّي وفسحة الحرّية التي كان يتمتّع بها لم يعد هو. ولبنان الذي كان مقصداً للسيّاح من كلّ حدب وصوب بات أبناؤه يفرّون منه في أيّة فرصة تتوفّر لهم نحو أصقاع الأرض المجهولة. ولبنان الذي كان خزينة لأموال العرب وغيرهم، يناضل أبناؤه اليوم من أجل استعادة أموالهم المنهوبة من المصارف بعد أن حجزب هذه المصارف عليها وراحت تتقاذف المسؤولية عن نهب أموال المودعين مع المصرف المركزي ومع الدولة. ولبنان الذي كان ينتج ويصنع الكتاب والقراءة للعرب ولغيرهم بات اليوم يغطّ في سبات عميق عن الثقافة والحرب واللغة. ببساطة لبنان الذي كنّا نتغنّى فيه، أو الذي قيل عنه "نيّال مَن عنده مرقد عنزة في لبنان" اختفى ولم يعد له وجود. لقد حوّلوا لبنان إلى غابة ليس فيها شريعة ولا قانون سوى قانون الأقوى.

أتت ذكرى الاستقلال هذا العام ولبنان يعيش فراغاً وشغوراً على مستوى الرئاسة الأولى. عقد المجلس النيابي أكثر من اثنتي عشرة جلسة لانتخاب الرئيس، غير أنّ غياب الحسّ الوطني والشعور بالمسؤولية وانعدام الأخلاق والشعور بالمواطنين أطاح بكلّ تلك الجلسات وكرّس الفراغ في سدّة الرئاسة حتى بات الشلل حاكماً على كلّ مؤسسة دستورية أو حكومية. فهذه الحكومات لا تجتمع إلاّ عند اجتماع مصالح الذين تتشكّل منهم، وهو ما ينعكس على حياة المواطنين بشكل مباشر. وهذا المجلس النيابي أيضاً لا يلتقي ويجتمع إلاّ إذا اقتضت حاجة القوى السياسية والكتل النيابية ذلك، أمّا ما سوى ذلك فمحكوم بالتعطيل ونصب الأفخاخ وحرفها الأمور عن مساراتها الطبيعية. وهذه مؤسسات الدولة الإدارية مصابة بالشلل شبه التام حتى أنّه يمكن القول إنّ أغلب هذه المؤسسات لا تؤدّي ما عليها من عمل سوى بمقدار ما نسبه 20% في أحسن الحالات. وهذا الفراغ والشغور يتسلّل إلى المواقع الإدارية الأولى في الدولة حتى باتت أغلب هذه المواقع تُدار بغير الأشخاص الذين أناط بهم الدستور إدارتها، وربما هذه من الأمور الإيجابية التي تجري، خاصة وأنّ دستور الطائف أشار إلى مبدأ المداورة في إدارة مؤسسات الدولة حتى لا تبقى أيّة إدارة حكراً على أيّة طائفة في بلد الطوائف والمذاهب.

أتت ذكرى الاستقلال والاقتصاد في حالة انهيار كبير حيث تخطّى الفقر عتبة 80% وفقاً لتقارير دولية أو حتى محلّية. وبلغ انهيار سعر صرف الليرة مستويات كبيرة حيث فقدت الليرة ما قيمته 90% تقريباً من قيمتها أمام العملات الأجنبية الأخرى. ونسبة النمو تكاد لا تذكر. ونسبة البطالة فاقت في بعض الأحيان 35% ونسبة العجر بلغت مستويات غير مسبوقة، وتخلّفت الحكومة عن سداد الديون للدائينين، وهو بدوره ما جعل شركات التأمين تصنّف لبنان في مستويات متدنيّة تؤثّر بشكل سلبي على سمعته، ولا يلوح في الأفق أيّ أمل بإمكانية الخروج من الأزمة الاقتصادية حتى لو تمّ الاتفاق على مخارج للأزمة الاقتصادية.

أتت ذكرى الاستقلال وتراود عقول بعض اللبنانيين فكرة للتخلّي عن هذا اللبنان من أجل إنتاج لبنان آخر يكون على "قـــدّ" طموحات وأفكار ونوايا هؤلاء. هؤلاء الذين باتوا يفكّرون في عقولهم بتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ والعودة بعقارب الساعة إلى زمن المتصرفية أو القائمقامية في انطواء جديد على الذات حتى لو أدّى ذلك إلى العزلة والانعزال، أو لو أدّى ذلك إلى ضرب هذا البلد في صميمه.

أتت ذكرى الاستقلال هذه المرّة ولبنان في رأس أطماع "إسرائيل" بعد أن تمكّنت من الاستيلاء على جزء من حقّه في المياه البحرية تحت عنوان ترسيم الحدود البحرية وبالتالي الاستيلاء على نفطه وغازه المكتشف لا لشيء إلاّ لأن البعض أراد تسجيل إنجازات وانتصارات وهمية وربما لصالح من هو خارج الحدود السيادسية التي يدّعي الدفاع عنها.

لبنان اليوم في ظلّ كلّ ذلك يسير بصراحة نحو المجهول، فلا نعرف متى سننتخب رئيساً، ولا متى نشكّل حكومة، ولا متى تعقد الحكومات اجتماعاتها؛ لا نعرف إن كنّا سنعيّن قائداً جديداً للجيش أم سنمدّد للقائد الحالي، ولا إذا كنّا سنعيّن مديراً جديداً للأمن الداخلي أم سنمدّد للحالي، ولا إذا كنّا سندير الدولة بطريقة المراسيم الجوّالة أم بغيرها. لا نعرف إذا كان الاقتصاد سيتعافى أم سيستمرّ بالانهيار وصولاً إلى قاع القاع. لا نعرف إذا كنّا سنستفيد من الثروة الوطنية الغازية والنفطية المكتشفة أم ستوزّع على القوى الدولية والإقليمية الفاعلة والمؤثّرة ؟!! كلّ هذه الأسئلة الهواجس قائمة وحاضرة فيما الإجابات غائبة ومتناقضة، وليس من أمر معروف الآن سوى أنّ لبنان يعيش حالياً في مهبّ المجول!!

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".