محمود علوش
توّجت الزيارة التاريخية للرئيس التركي
أردوغان إلى القاهرة في 14 فبراير/ شباط الجاري الحقبة الجديدة في العلاقات التركية
المصرية منذ إعادة إصلاحها. انهار المنطق الذي أدار العلاقات خلال فترة الأزمة وساهم
في إطالة أمدها نحو عقد، لأنه تحدّى بشكل صارخ منطق الواقعية الجيوسياسية. لذلك، كانت
العودة إلى هذا المنطق السبيل لإعادة إصلاح العلاقات. بالنظر إلى أن الزيارة الأولى
لأردوغان منذ ما يزيد عن عقد، وأن أنقرة استبقتها بالإعلان عن اتفاق مع القاهرة لتزويدها
بطائرات مسيّرة تركية والتعاون المشترك في المجالات الدفاعية، فهي تُشير إلى أن البلدين
لا يسعيان إلى تصفير مشكلاتهما فحسب، بل يطمحان إلى تجاوز سريع لآثار الأزمة، ووضع
خريطة طريق لتطوير العلاقات الجديدة إلى ما هو أبعد من العودة إلى ما قبل عام
2013.
وفي هذا الإطار، يندرج في الأهداف المستقبلية
العريضة التي وضعها كل من أردوغان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال قمتهما، رفع
مستوى التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار سنوياً والتعاون في القضايا الإقليمية الأكثر
حيوية للبلدين، مثل الوضع في ليبيا وشرق البحر المتوسط. مع ذلك، يتطلب الوصول إلى هذا
المستوى الطموح، قبل كل شيء، تعزيز الوضع الجديد الناشئ في العلاقات، وبناء أرضية صلبة
من الثقة للانطلاق منها. ويُمكن وضع زيارة أردوغان القاهرة في سياق تدشين دبلوماسية
القادة بين رئيسي البلدين، والتي يُفترض أن تعمل محفّزاً قوياً إضافياً في المستقبل،
لتحقيق الأهداف التي رسمتها قمّة القاهرة. يتصف أردوغان ببراغماتية قادرة على الانتقال
من ضفّة إلى أخرى ساعدته، إلى حد كبير، في إعادة ترميم علاقاته مع خصومه السابقين من
قادة دول المنطقة، بمن فيهم السيسي. مع ذلك، لم تقتصر العوامل التي ساهمت في طيِّ عقدٍ
من الأزمة بين تركيا ومصر على براغماتية أردوغان، وهي مرتبطة بمجموعة من الديناميكيات
الثنائية والإقليمية.
وعلى الرغم من أن الأزمة التركية المصرية
ظلّت على وتيرة مستقرّة خلال العقد الماضي، إلّا أن استمرارها، بالتوازي مع تصاعد حدّة
التنافس بين البلدين في ليبيا وشرق البحر المتوسط مع نهاية العقد الماضي، أفرز مخاطر
جديدة على الطرفين. وقد برزَت هذه المخاطر بوضوح في ليبيا، عندما كاد يؤدّي انخراط
البلدين في دعم الأطراف المتصارعة في هذا البلد عام 2019 إلى صدام عسكري مباشر بينهما.
وقد عملت هذه المخاطر كنقطة تحوّل فارقة في مسار الأزمة نحو الشروع في تهدئتها، وصولاً
إلى إعادة تبادل السفراء. مع ذلك، كانت تهدئة حدّة الصراع الإقليمي في ليبيا منذ تلك
الفترة إحدى نتائج خفص تصعيد إقليمي واسع النطاق، برز مع وصول الرئيس الديمقراطي، جو
بايدن، إلى البيت الأبيض، وأعاد تشكيل المنطقة، ودفع القوى الفاعلة المتنافسة إلى التخلي
عن نهج التصادم في ما بينها كوسيلة تحوط من آثار التحوّل الأميركي على الشرق الأوسط.
وقد أوجدت التحوّلات الإقليمية التي طرأت منذ تلك الفترة، إن على صعيد إنهاء الأزمة
الخليجية أو على صعيد إصلاح أنقرة علاقاتها مع الإمارات ثم السعودية، بيئة مناسبة لتركيا
ومصر للشروع في محادثاتهما الاستكشافية. كما كان للعزلة التي واجهتها تركيا في معادلة
صراع شرق البحر المتوسط وإقصائها عن منتدى غاز شرق المتوسط دورٌ في دفع أنقرة إلى البحث
عن سبل لإنهاء الأزمة مع مصر.
ما كانت الانعطافة الكبيرة التي بدأتها
تركيا في سياساتها الإقليمية منذ أكثر من ثلاث سنوات لتتحقّق، لولا شروعها في إحداث
تحوّل على علاقاتها بجماعة الإخوان المسلمين، ما يشير إلى أهمية هذا العامل في إنجاز
المصالحات مع مصر والقوى العربية الأخرى المعارضة للجماعة كالإمارات والسعودية. كانت
علاقات تركيا الجيدة بالجماعة في العقد الماضي عائقاً أساسياً أمام إمكانية إعادة إصلاح
علاقتها مع القاهرة والرياض وأبوظبي. مع بدء ظهور الانتكاسات التي تعرّضت لها جماعة
الإخوان منذ إطاحة الجيش المصري الرئيس الإسلامي محمد مرسي في 2013، ثم تراجع الفروع
الأخرى للجماعة في الدول العربية الأخرى، بدأت أنقرة تولي أهمية لمزايا الابتعاد عن
الإخوان المسلمين مقابل إصلاح علاقاتها مع خصومها الإقليميين. ولا تعني إزالة عقبة
هذا الملفّ من أجندة العلاقات التركية المصرية أن القضايا الخلافية بين تركيا ومصر
انتهت جميعها. لا يزال الصراع في ليبيا إحدى العقبات الأساسية، على الرغم من أن البلدين
كانا في السنوات الأخيرة أكثر ميلاً إلى التعاون ومحاولة مواءمة مصالحهما هناك. كما
أن الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط في العقد الماضي، والذي عقّد من مساعي إعادة
إصلاح العلاقات لا يزال قائماً، وإنْ بوتيرة متراجعة.
اختيار أردوغان أبوظبي، التي زارها
يومين، للسفر منها إلى القاهرة، يعكس الدور البارز الذي لعبته السياقات الإقليمية والدولية
المتُعددة في إعادة تشكيل العلاقات التركية المصرية. وتساعد نظرة على عملية خفض التصعيد
الإقليمي الواسعة منذ عام 2020 في فهم الكيفية التي عملت بها تحوّلات الشرق الأوسط
منذ تلك الفترة على تأسيس الوضع الجديد في العلاقات التركية العربية عموماً، والتركية
المصرية خصوصاً. أخيراً، أظهرت حرب 7 أكتوبر وارتداداتها الإقليمية حاجة تركيا والقوى
الفاعلة في المنطقة العربية للتعاون من أجل إدارة شؤونها ومصالحها في الشرق الأوسط
باعتمادٍ أقلّ على الولايات المتحدة، التي لم تعُد قادرة أو راغبة أو كلتيْهما معا
في مواصلة انخراطها القوي في المنطقة، ولتقويض قدرة إيران على الاستفادة من فراغ السلطة
الناجم عن تراجع التأثير الأميركي في المنطقة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".