يقظان التقي
يفتح الاتفاق
بين السعودية وإيران نافذة جديدة بين الخصوم القدامى، وقد يطوي صفحة عقود من انعدام
الثقة بين البلدين، وهو اتفاق التزام تجاه الصين، المتغيّر الأساسي في لعبة تبرز فيها
دبلوماسية ناشطة سعوديا (براغماتية)، بعد حزمة من القرارات التي أعلنتها المملكة على
مدى الأعوام العشرة الماضية، والتي عكست شكلا من مفاهيم السيادة الخارجية المستحدثة.
يعزّز الاتفاق الآمال في إنهاء الصراع في اليمن، إذ يعرب الفريقان عن "الرغبة
في بناء علاقة جيدة وإيجابية"، لكن الصحافة الغربية رأت خلف ظهور هذه الدبلوماسية
صعود "القومية السعودية أولا"، والتي يشجعها ولي العهد محمد بن سلمان. ولا
يتعلق الأمر فقط بالعودة المرتقبة للعلاقات الدبلوماسية مع إيران بوساطة صينية صارت
تلعب دورا في أمن استقرار منطقة الخليج، ما يعني وجود الأخيرة في حديقة الولايات المتحدة
التي كانت وما زالت الحامي التقليدي العسكري في شبه الجزيرة العربية. بدا مسار التنويع
الاستراتيجي السعودي واضحا أخيرا في محطّات عدة، انتهى إلى تقديم هدية للصين، لكن خلف
الاتفاق مناخ آخر أمني/ استخباري، وسبقت الاتفاق بأشهر تهديداتٌ مباشرةٌ من خطر هجوم
إيراني يستهدف المملكة، استدعى تحليق طائرات أميركية فوق الخليج لتحييده، وكانت إشارة
إلى تصاعد التوترات بين القوى المتنافسة في الشرق الأوسط.
مردّ الترحيب
الدولي الحذر التحول الكبير الذي يمثله الاتفاق بين "عدوين تاريخيين". لا
يزال السعوديون حذرين بشأن ما سيُنتجه الاتفاق، لكنهم يريدون محاولة تحسين العلاقة
بأي طريقة ممكنة، ورأوا بوضوح في الوسيط الصيني فرصة جيدة (لم تصل إليهم عبر الحليف
الأميركي)، لدعم اتفاقٍ تشعر طهران بنوع من الإذعان له بسبب علاقتها التجارية والنفطية
مع بكين. بدأت تباشير الاتفاق في لقاءاتٍ عقدها مسؤولون في المخابرات السعودية والإيرانية،
في محادثاتٍ مباشرةٍ لإصلاح ذات البين منذ أوائل عام 2021. تلتها جهود دبلوماسية عراقية،
توقفت العام الماضي، بعد اندلاع موجاتٍ من الاحتجاجات النسائية في إيران، ألقت طهران
اللوم فيها على القوى الأجنبية، بما في ذلك العربية السعودية. عبرت إيران عن غضبها
من "قناة إيران الدولية"، وهي قناة تلفزيونية فضائية تعتقد طهران أن الرياض
تموّلها، ومن القنوات الفضائية العربية الفاعلة في تغطيتها الحدث الإيراني.
ضغطت إيران
أخيرا من أجل إعادة فتح السفارات، لكنها لم تكن جادّة في معالجة مخاوف الرياض، لجهة
استخدام نفوذها على الحوثيين في اليمن، والمساعدة في إنهاء الحرب المستمرّة منذ ثماني
سنوات، ووقف الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة. ولطالما اتهمت الرياض إيران ومليشياتها
بتزويد الحوثيين بتلك التكنولوجيا منذ تدخلها في الحرب اليمنية عام 2015. تدخل الصين
وسيطا، وعاملا ضامنا. السعودية تؤكد أن ذلك "ليس مؤشّرا على أي محور بعيدا عن
الغرب"، وأن الصين أعربت عن استعدادها للعب دور في صنع السلام، وإعادة وصل العلاقات
التي انقطعت بعد اقتحام المتظاهرين الإيرانيين سفارة المملكة، وتدهورت أكثر في عام
2019، إثر الهجوم الصاروخي والطائرات من دون طيار، والذي أدّى إلى توقف نصف إنتاج النفط
السعودي مؤقتا.
يقول دبلوماسيون
إن ولي العهد السعودي أصبح أكثر جدّية في مسألة الخروج من الحرب في اليمن، وحيث تمضي
الحكومة السعودية في خطط الإصلاح الاقتصادي، وتطوير مشاريع سياحية ضخمة على البحر الأحمر،
هو الذي شبه مرة المرشد الإيراني خامنئي بهتلر، لكنه بدّل لغته قبل عامين، مشدّدا على
بناء علاقة جيدة وإيجابية مع الجمهورية الإسلامية التي تملك القدرة على تهدئة الوضع
في اليمن، في طموح إرساء هدنة ووقف شحنات نقل الأسلحة (أوقف الأميركيون والبريطانيون
خمس ناقلات منها)، ما يسمح بالانصراف إلى تدبير شؤون الداخل في المملكة، في الاقتصاد،
وتعزيز الهدوء والاستقرار، ولأسباب داخلية تتعلق بجيل جديد في السلطة، يحتاج إلى جو
أمني آخر ممسوك، يخفّف الضغوط على ولي العهد السعودي نفسه، لإنجاز مشروعه 20 /30، وعلى
نحو ما غلّفه تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان عن أن "دول المنطقة تشترك
في مصير واحد، والسعودية مستعدة للتحدّث مع الجميع".
وقد رحبت إيران
بالاتفاق، واعتبرته نجاحا دبلوماسيا، وهي قوة عسكرية كبيرة، تتطلع إلى تطوير علاقاتها
الإقليمية للتعويض عن الضغط المتزايد عليها من الغرب، وتحتاج إلى تهدئة الأوضاع على
المدى القصير. لذلك تعطي الاتفاق مع المملكة طابعا أمنيا عسكريا، بخلاف الأولوية الاقتصادية
التي أعطتها زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني،
أبوظبي بعد الاتفاق مباشرة، على خلفية أهداف إيران الاقتصادية والتنموية. وقد سلطت
الصفقة الضوء على تراجع نفوذ الولايات المتحدة، واعتبر المستشار العسكري للمرشد الأعلى
في إيران إنها كانت "زلزالا سياسيا ونهاية للهيمنة الأميركية، ما يعني أن حقبة
ما بعد الولايات المتحدة في الخليج قد بدأت".
وبالفعل، شكّل
الاتفاق أول تجربة سياسية خارجية للصين على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر عن أراضيها، تواكب
قوتها الاقتصادية وحجمها، وهي تستفيد من فرصة لعب دور دبلوماسي على خلفية عزلة روسيا
في حربها على أوكرانيا. لم يتم الكشف عن كل نقاط الاتفاق، غير أن المعاهدة التزام ثنائي
تجاه الصين. إما أن تجعلهم يتصرّفون جيدا معا، أو يفقدون ماء الوجه مع الخارج، لكن
الصين لا تملك آليات تنفيذية، لا قواعد على الأرض لها، ولا تستطيع ضمان أمن الخليج
عسكريا. وثمّة عناصر دينية هي جزء من جيوبولتيك مؤثّر في مصير الاتفاق.
سينتقل الاهتمام
إلى اليمن، حيث الأمل أن يساعد التقارب في إنهاء واحدةٍ من أسوأ الكوارث الإنسانية.
المحاذير كثيرة، منها عدم تأمين تسوية مع سيطرة الحوثي على شمال اليمن، المكتظ بالسكان
والفصائل المتعدّدة، غالبا ما تتنافس مع بعضها بعضا في الجنوب. اليمن بلدٌ متعدّد الطبقات،
ثم هناك عمق انعدام الثقة بين البلدين. مع ذلك، سيضمن الاتفاق هدنةً في صراع طويل،
غير مستقر من ضمن تحوّلات تصيب حالة من العداء غير المباشر، وتخفّف منه. ومخاوف السعودية
من اليمن المجاور مبرّرة من قوىً تدعمها إيران بقوة، من بينها حزب الله اللبناني، وفصائل
عراقية لا تُحصى. يُضاف هذا إلى خوفها من برنامج طهران النووي. سيكون إذاً سلاما باردا،
والتوترات ستتقلص، ستتحسّن الأمور قليلا، لكن الأشياء لن تتوقف هنا.
تقول إيران
إن هدفها تحقيق الأمن الخليجي بأيادٍ خليجية، هي تملك جهوزيّتها، وطرد القواعد الأميركية
هدف أساسي لها. مع أن كلا الجانبين أظهرا قدرة على تشغيل نوايا مخادعة، مثل العقد الضخم
لإصلاح العلاقات السعودية الأميركية (لن يكون كافيا)، بعدما طلبت شركتا الطيران السعودي
39 طائرة خاصة بالمسافرين، وأجهزة إضافية من واشنطن لطمأنة الأميركي الذي يشعر بوطأة
الحضور الصيني في منطقتي أفريقيا والشرق الأوسط، وقد يؤدي ذلك مع الموقف الإسرائيلي
المراقب، إلى انتكاسات عنيفة، ومتهوّرة.
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة
في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".