سميرة المسالمة
يصعب على أي كاتب سوري ألّا ينزلق إلى
حفرة العاطفة، بعد الزلزال الكارثة الذي أصاب تركيا وسورية في 6 فبراير/ شباط الحالي،
لأنه يكتب عن ضحايا الزلزال، وهو أحدهم، وعن المصابين، وهو الجريح، وعن الناجين، وهو
المكلوم، لا مسافة تفصل بين الناس، قربهم وبعدهم عن هول المصاب، فقد كان هو النقطة
الصفر الجامعة. صحيحٌ أنّ هذا الدمار ليس جديداً عليهم، فقد خبروه مراراً وتكراراً،
هربوا منه فلحق بهم، ولا يزال ملتصقاً بتفاصيلهم وأخبارهم. لقد وحّدت الكارثة آلام
السوريين، لكنها لم تستطع رأب صدع جغرافيتها الممزّقة، انتصبت حدودها في وجه تدفّق
المساعدات للمنكوبين، معلنة هزيمة الإنسانية أمام قبح السياسة، فكانت سبباً متجدداً
لتفاقم عذابات الناس وموتهم.
وقعت الكارثة ولم تنتهِ مفاعيلها، هي
أيضاً على تلك البقعة التي كانت، إلى حين قريب، محطّة انتظار لحربٍ تركية خاطفة، أو
عملية عسكرية خاصة، وتتنازع على ملكيّتها دولٌ وكيانات، لكنها اليوم صارت هذه الأرض
السورية ذاتها بلا مأوى تستند إليه، فلا راعي لها، ولا مدافع عن حقّ أهلها بالحياة،
انتزع عنها النظام السوري سوريتها، ولم يعترف بمأساتها، ورمى الطامعون بها عن كاهلهم
عناء إغاثتها، وشكّلت بمأساتها سورية جديدة، تضاف إلى عديد "سوريات" قائمة
بحكم الأمر الواقع، سورية النظام، وأخرى لفصائل محسوبة على تركيا، وثالثة لقوات سوريا
الديمقراطية (قسد) تحت الحماية الأميركية، ورابعة هي إمارة الجولاني (جبهة النصرة)،
والجديدة هي سورية الزلزال الغارقة تحت ركامها بشعبها وعدّتها وعتادها.
تعيد هذه الكارثة التي استهدفت مناطق
متفرّقة من الأرض السورية (تحت حكم النظام وخارج سيطرته) تموضع السياسة الدولية، وأدوار
الفاعلين في ملف القضية السورية، وترتب (أو تنشر الفوضى) من جديد في مواقع الدول في
صداقاتها وتحالفاتها أو مساوماتها مع النظام السوري، ممثلاً برأسه بشار الأسد مباشرة،
أو عبر طريق غير مباشر مع ما تسمّى مؤسساته. وبعض هذه الأدوار مبنيّ على أسس إنسانية
بحتة، مهمتها إنقاذ العالقين بين زلزالي الطبيعة والسياسة، وبعضها الآخر ينفذ من فوهة
الموت ليسهم في قيامة نظام الأسد من جديد، منطلقاً من اصطفافٍ مسبقٍ ضد حريات الشعوب،
وعدوى الديمقراطية ونداءات الحرية.
يستطيع رئيس النظام السوري أن يتحدّث
عن عجز الدولة في أداء مهامها، بسبب هول المصاب وسعة تدميره، وأن يطلب المساعدة من
كلّ العالم (وليس من روسيا وإيران الغارقتين بمشكلاتهما)، وعلى العالم الذي يساند الحريات
أن يفعل ذلك من دون مدلولات سياسية، لأن تلك المساعدات حقّ للسوريين جميعهم، وهذا ما
تؤكّده حتى العقوبات الأميركية والدولية على سورية، التي استثنت على الدوام ما يتعلق
بالغذاء والدواء، وهما من الأساسيات التي يفتقدها المواطن السوري، قبل زلزال الطبيعة،
أي نتيجة تلك الحرب التي يتحدّث عنها الأسد بصيغة المبني للمجهول، وأنها هي المسؤول
عن خراب الاقتصاد، من دون أن يحدّد الفاعلين الأساسيين فيها، وكأن هذه الحرب خارجية،
وليست حرب نظام على شعبه.
من الغريب جداً أن يستخرج الأسد مزايا
للحرب السورية الطويلة التي استنفدت إمكانات سورية بجيشها واقتصادها ومخزونها المالي،
وأن يدّعي أن الحرب مكّنت الناس من امتلاك خبراتٍ للتعامل مع هذه الكارثة، وكأننا كنا
في رحلةٍ تعليمية، وليس تحت زلزال السلطة التي يرأسها، شرّدت السوريين، وقسّمت مجتمعهم،
وما خبروه في الحقيقة خلال 12 عاماً من الحرب التي يخوضها النظام لتحرير الأرض من معارضي
سلطته، هو الفقد والخراب والموت تحت الدمار.
على الجهة المقابلة، أنهى الزلزال بكل
تفاعلاته أدوار كيانات المعارضة وفصائلها المسلحة على الأرض الغائبة أساساً عن أي مشاركةٍ
شعبيةٍ، ما يترك السوريين في المناطق المنكوبة على قارعة الطريق، أو في مهبّ الريح،
فلا هم على أرضهم، ولا هم ضمن جزئية التفاوض عليهم في العلاقة المستحدثة بين النظام
السوري ومجموع الدول المؤثرة، ومنها تركيا الحاضنة لكيانات المعارضة.
على السوريين انتظار تعافي تركيا من
مصابها الكبير، وخسائرها الفادحة والمؤلمة جداً التي أحدثها زلزال كهرمان مرعش وتداعياته
على 11 ولاية منكوبة، لأن الكلمة الفصل في الشمال السوري ستبقى معلقة، بما ستقرّره
السياسة التركية بخصوص نوعية مداخلتها في الشأن السوري، لجهة الاستمرار في الجهود للتطبيع
مع النظام، أو لجهة الإصرار على الدخول العسكري إلى مناطق الشمال السوري بعمق 30 كم،
وهو الوعيد الذي دأب الرئيس أردوغان على إطلاقه بين فترة وأخرى منذ حوالى عامين، منتظراً
الظروف الدولية والإقليمية السانحة التي تسمح له بذلك، لذا ففي هاتين المسألتين يفترض
انتظار تعافي تركيا من جراحها، أو التقاطها أنفاسها، وربما انتظار فترة ما بعد الانتخابات
الرئاسية، إن جرت في موعدها!
على رغم الحماسة الدولية لتقديم العون
للمناطق المنكوبة في سورية وتركيا، مع اختلاف درجات هذا الاندفاع، يواجه التعامل مع
الوضع السوري صعوباتٍ وتعقيداتٍ عديدة، إذ إن الأطراف الدولية المعنية، أو القادرة
على العون، وهي الدول الغربية تحديداً، لا تبدو متحمّسة للانفتاح على النظام، أو توكيله
بأشكال الدعم المقدّم إلى المناطق المنكوبة في الشمال السوري، غير الخاضع لسيطرته،
وهو ما كان واضحاً من تأكيد الإدارة الأميركية أنّ قرارها التعاطي مع الكارثة السورية
لا يعني إعفاء النظام من العقوبات، لأنّ كلّ العقوبات لا تشمل أصلاً المواد الغذائية
والصيدلانية، وحالياً مواد الإغاثة.
ستكون كارثة الزلزال الأكثر حضوراً
في مناقشة الواقع السوري على طاولة الحوار الدولي، خصوصاً بعد التقديرات عن مضاعفة
احتياجات سورية لترميم بنيتها التحتية، وإعادة قدرة مؤسساتها على تقديم الخدمات، إذ
قدرت خسائرها أخيراً بما يفوق خمسة مليارات دولار، ما سيطرح عدة أسئلة، مثلاً، هل سيُجرَّد
الملف السوري من طابعه السياسي، والاكتفاء بطابعه الإنساني/ الإغاثي؟ وهل هذا التحوّل،
إن حصل، سيعني طيّ صفحة الصراع مع النظام؟ ثم بين هذا وذاك، ما شأن فصائل المعارضة،
أو ما بقي منها، في ضوء هذا التطوّر؟ وماذا عن أدوار الأطراف الفاعلين الدوليين والإقليميين،
ولا سيما تركيا؟
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".