سوسن جميل حسن
من
مفرداتٍ نتداولها بوفرة في الحياة المهنية الطبية كلمة وهط (Collapse)، خصوصا في ما يتعلّق بالدورة الدموية، وهي تعني الانهيار على مستوى
القلب أو الأوعية الدموية، وما ينجم عنه من مخاطر جسيمة تنتهي بالموت إذا لم يتم التدخّل
السريع، الذي قد يفشل في أحيانٍ كثيرة، لأسباب لسنا في وارد مناقشتها، لأن ما ترمي
إليه المقالة نوع آخر من الـ"وهط" أو الانهيار، إنه انهيار المجتمعات.
من
علامات الانهيار في أي تجمّع بشري ضمن حدود جغرافية معينة، يديره نظام سياسي، تراجع
مهم في عدد السكان، وفقدان الهوية، وتداعي ركائز الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية. ثم
تتدهور الخدمات العامة، وتسود الاضطرابات مع تفشّي أعمال العنف والاشتباكات في البلاد.
في
التاريخ أمثلة عديدة على انهيار الحضارات والإمبراطوريات، قديمًا، وحتى النصف الثاني
من القرن العشرين بانهيار الاتحاد السوفييتي، وتفكّك دول عديدة في أوروبا الشرقية،
وما زالت العوامل المهدّدة بالانهيار قائمة، في ظل الأزمات المتفاقمة والحروب المشتعلة
في مناطق عديدة، ولا تحمي البشرية حقيقة أنها قد تكون في أكثر مراحل تطوّرها تاريخيًّا،
في عصر التقدم العلمي الكبير والثورة الرقمية، لأن هذا التطوّر المتسارع يضعها أمام
مخاطر وتحدّيات لم يشهدها التاريخ، وربما قد تفاجئ العالم قبل أن يكون مستعدًّا لمواجهتها.
ليست المجتمعات الكبرى في مأمن من التفكّك، فتداعيات الأزمات حاليا، بفضل النظام الاقتصادي
العالمي، أصبحت أوسع نطاقا من أي وقت مضى.
لكن،
ماذا بشأن دول (ومجتمعات) منطقتنا العربية، التي يعاني معظمها من اضطرابات سياسية وعسكرية
وحروب وأزمات طاحنة، طالت مدّتها، ويبدو أنها مفتوحة على أمد غير معلوم، أقلّه بموجب
المعطيات الحالية؟ قد يفتقر الكلام عن حضارة عربية راهنًا، أو أمة عربية، أو شعب عربي،
بشدة إلى الشرعية، إذ لو بحثنا عن مقوّمات كل مصطلح بمفرده لما وجدنا ما يؤيّد هذا
الافتراض، على الرغم مما ساد المنطقة من شعاراتٍ قوميةٍ في الحقبة الممتدة على قرن
مضى، وفشلت غالبية الدول التي نالت استقلالها في بناء دولة حديثة تقوم على المواطنة
والقانون والمؤسّسات، وتنهض بمجتمعاتها، حتى على مستوى الدولة الواحدة، هل هناك هوية
وطنية منجزة، وثقافة يمكن القول إنها ملمح أساس لهذا المجتمع أو ذاك؟ أخمّن أن من الصعب
تحديد هذه المفاهيم في هذه المجتمعات، ففي سورية على سبيل المثال، هل كان يوجد قبل
الانتفاضة الشعبية في مارس/ آذار 2011 ما يمكن تعريفه بالمجتمع السوري، أم كانت هناك
مجتمعات موزّعة على قطاعات جغرافية ضمن الحدود السياسية للدولة السورية؟ هذا التعدّد
والتنوع الثقافي كان واقعًا، لو تم الاشتغال عليه ضمن ظروف من الديمقراطية السياسية
والمجتمعية لما كان الانهيار المجتمعي قد بدأ باكرًا وتسارع، حتى وصلنا إلى ما نحن
عليه، أو إلى ما هو عليه السوريون في كل مكان.
لم
تتوفر قبل هذا التاريخ قواسم مشتركة بين السوريين تؤسّس لمفهوم المجتمع السوري الحيوي،
لكن إذا ما تمعنّا في الوضع الراهن، فإن ملامح مشتركة عديدة ومتنوّعة أصبحت تشكل مقوّمات
مجتمع أوسع، إنما مجتمع منهار، علامات ترسم هوية جديدة يتشابه بها السوريون، أقلّه
في الداخل السوري، وفي دول اللجوء القريبة، حيث يعاني فيها السوريون بطرائق متشابهة
من الفقر وانعدام التعليم والأمن الغذائي والحياتي، ومن مظاهر العنصرية والكراهية بحقّهم،
كذلك في الداخل السوري في معظم المناطق، ربما مناطق الإدارة الذاتية تحظى باختلاف بسيط
لجهة الحياة المعيشية، إنما لا يخلو الواقع من عوامل التفرقة أو اللاانسجام بين مكونات
المجتمع لديها. ولكن في ما يخص باقي المناطق، وخصوصا مناطق النظام، لا يمكن القول إن
هناك مجتمعًا معافى، حتى نستطيع القول بوجود مجتمع عوضًا عن مجتمعات. ما يجمع الأفراد
هناك هو المعاناة الحياتية، فالانهيار يطاول كل أركان الحياة، انهيار البنى التحتية،
انهيار الخدمات من ماء وكهرباء، انهيار معظم المنظومات المعرفية والأخلاقية والقيمية
وغيرها، استشراء الفساد وتغوّله، ليس الفساد الإداري فحسب، بل الفساد المجتمعي الذي
أوشك أن يصبح أحد ركائز الحياة، واكتسب شرعيةً لا بأس بها في نفوس الناس، اللامبالاة
تجاه الظروف المسيطرة، أو التأقلم مع ظروف النكوص إلى ما قبل مائة عام، عندما بدأت
الكهرباء تنتشر في سورية، انعدام الشفافية والمصداقية في ما يخصّ الخدمات التي تقدّمها
الدولة للمواطن، من تعليم ورعاية صحّية، فالغشّ وتردّي مستوى هذه الخدمات صار شأنًا
مقبولًا، حتى إن الترويض وصل بالناس إلى أنهم يشكرون الحكومة إذا ما أمنت وصول التيار
الكهربائي إلى المواطنين ساعة، وكأنهم تلقّوا هبة ونعمة لا تقدّران بثمن. يمكن عدّ
علامات تردٍّ وانهيار كثيرة، ما يجعل المرء يُصاب بالذهول من قدرة هذه المجتمعات على
تغيير نظم حياتها من أجل التأقلم مع المتغيرات، فتتشابه مع الكائنات الدنيا التي تتبوّغ
في أثناء الظروف غير الملائمة لحياتها النشطة المزدهرة، لتنتعش عندما تتبدل ظروفها،
أو تلك التي تدخل سباتًا شتويًّا للتقليل من استهلاكها بانتظار فرج الطبيعة.
انهيار
متسارع على مستوى الدولة والمجتمعات، مؤشّره الأكبر هبوط قيمة الليرة السورية، وانحدار
قوتها الشرائية، مع بقاء سلم الرواتب والأجور كما هو، إذ أصبح راتب الجامعي لا يتعدّى
15 دولارًا شهريًّا في أحسن حالاته، فقر وجريمة ويأس وأمراض نفسية واجتماعية وبيئية
وغيرها الكثير، وما زالت أكثر الجمل تردّدًا على الألسنة "الحمد لله على كل شي"،
وكأن القدريّة والخنوع بكل أشكاله هما الملمح الوحيد الجامع الذي يمكن القول معه إن
هناك مجتمعًا سوريًّا، إذ حتى الشرائح الكبيرة التي انتفضت عادت، في غالبيتها، إلى
هذه المقولة، في ظل الظروف التي حكمتها واستحكمت بها.
الوهط
الدوراني يسبب فشل الأجهزة الحيوية، وأخطرها فشل الأجهزة أو الأعضاء النبيلة في الجسم،
فإذا كُتبت لهذه العضوية النجاة من الموت، غالبًا ما تعيش في حالة إعاقة، تصبح فردًا
غير قادر على الحياة من دون دعم ومساعدة وأدوية طوال عمره، فكيف بوهط اجتماعي، وانهيار
منظومات المجتمع والدولة؟ إنها حقيقة مؤلمة، لا بد من تحديد المسؤوليات. إنها قبل كل
شيء مسؤولية أنظمة الحكم التي مارست محاصرة الوعي والضمائر على مرّ العقود، وأرخت الحبل
للسلاطين الآخرين كي يؤطّروا وعي الناس بمفاهيم الخنوع والخضوع، من رجال دين ورجال
طوائف ورؤساء عشائر وغيرهم. والمقلق في شأنها أن هذه المجتمعات لم تستطع اختيار نخبها،
ما زاد في معاناتها ووصولها إلى الوقوف على هذه الحافّة، حافّة الانهيار.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".