أرنست خوري
للحروب، كل الحروب، ضحايا غير مرئيين.
قد يكونون بشراً أو قيماً يمكن اختزالها بأمّ القيم، أي الحرية، حرّية التفكير والتعبير
والنقد وتكوين رأي فردي يكون خطيراً على صاحبه حين يخالف التيار السائد في الجماعة
التي تميل إلى أن تصبح قبيلة في أوقات الاقتتال. شيء من هذا يحصل على هامش الحرب على
الفلسطينيين في غزّة اليوم، وهو يمتد جغرافياً على نطاق يتجاوز حدود فلسطين ليشمل الرأي
العام في معظم البلدان العربية. والرأي العام العربي ليس مشهوراً بتشرّبه ثقافة ديمقراطية،
ولا بسعة صدره حيال المختلف من الآراء في الأيام "العادية"، أيام السلم،
فكيف عندما يصادف مختلفاً وسط هذه الوحشية الإسرائيلية التي ترفع الأدرينالين إلى مستوياتٍ
تشلّ العقل؟ يسهل حينها أن يجد العجز الذي لا بد أن يشعر به أي إنسان لا يزال إنساناً،
أمام مشاهد الإجرام الإسرائيلي، دواءه انتقاماً، لا مِن بنيامين نتنياهو ورفاقه مصّاصي
الدماء المهووسين بإبادة الفلسطينيين، بل من المختلف ذاك، صاحب الرأي الذي يصبح سريعاً
خائناً وعميلاً وجاسوساً دمه مهدور. في ظروف كهذه، تصبح وسائل التواصل الاجتماعي مكاناً
لخفض سقف الحرية لا لرفعه إلى أعلى. لا يتعلق الأمر بخوارزميّات ولا بسياسة حجب وفلترة
وحذف تمارسها إدارات الوسائط، بل برقابة تفرضها إجماعات الجماعة من دون حاجة لأوامر
من قيادة جيش إلكتروني أو ذباب أو حسابات وهمية في كل مرة يصادف الرأي العام فرداً
صاحب رأي مستقلّ. يكفي أن يعبّر أحدهم، فلسطينياً كان أو غير فلسطيني، عن رأيه بأن
النموذج الذي تقدّمه حركتا حماس والجهاد الإسلامي، اجتماعياً وفكرياً وثقافياً وسياسياً،
قبل الحرب وبعدها، قد لا يكون ذاك الذي يليق بالفلسطينيين وبمستقبلهم في قطاع غزة أو
أي مكان آخر، لكي يواجَه بعنف لفظي وحدها حدود الفضاء الإلكتروني تحول دون ترجمته إلى
عنفٍ جسدي أو تؤجّله إلى حين. يكفي أن يناقش أيٌّ كان الجدوى السياسية لعملية
"حماس" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وعن أسباب شمولها أطفالاً ومدنيين عموماً
بين قتلى ومخطوفين، وأن يقول إن ذلك أتى بنتائج كارثية على الفلسطينيين، وأن الانتصار
الذي يتحدّث عنه منظّرو انتصاراتنا الدائمة، ما هو إلا خسارة ولّادة خسائر، لأن لا
انتصار عندما يُقتل 18 ألف فلسطيني في شهر ونصف الشهر، ويُعطب عشرات الآلاف جسدياً
ونفسياً، وتُدمّر منازلهم ومنشآتهم العامة والخاصة وتُحرق أرضهم، ولا انتصار حين يصبح
التوصّل إلى هدنةٍ من بضعة أيام أقصى الأمل، ولا انتصار حين يُطلق سراح الرهائن الإسرائيليين
المدنيّين في مقابل أسرى فلسطينيين سيُعاد اعتقالهم أو اعتقال غيرهم وغيرهن في الضفّة
والقدس غداً أو بعد غد بمعدل مائة يومياً. لا انتصار عندما يصبح بقاء الفلسطينيين في
غزّة بعد انتهاء الحرب، وعدم تهجيرهم من القطاع، إنجازاً بذاته.
هذا شيءٌ مما يصبح قوله أكثر صعوبة
مع مرور الأيام في زمن الحرب تحت طائلة التخوين العزيز جداً على قلوب كثيرين منا. حرب
تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل كانت مختبراً لتخوين من قال إن حزب الله فتح الباب
لإسرائيل لكي تدمّر جزءاً من لبنان وعمّق بذلك النزاعات الأهلية للبلد الهش. لكن التخوين
يمكن رصده على نطاق أوسع بكثير اليوم، لا لأن حرب تموز لا تُقارن بدموية إبادة غزة
فحسب، بل أيضاً لأن بين 2006 و2023 فوارق هائلة في انتشار وتعدد وسائل التواصل الاجتماعي،
أداة التجهيل والتحريض والتسفيه الأساسية أحياناً كثيرة، ووسيلة معرفية استثنائية أحياناً
أخرى. بالنسبة لآباء ثقافة التخوين وأبنائها، العالم ينقسم إلى فسطاطين، معنا أو ضدّنا،
أبيض وأسود، خير وشر، كما تُعلّمنا الحكمة المشتركة بين جورج بوش الابن وأسامة بن لادن
وبنيامين نتنياهو. بالنسبة لمنظّري ثقافة التخوين، يستحيل استيعاب فكرة بسيطة من نوع
أن للمخلوق البشري عينين اثنتين، ربما لكي لا يُقنعه أحد بأنّ ما تراه عينه اليسرى
هي الحقيقة الوحيدة التي لا بد أن تبصرها عينه اليمنى، فلا العين اليمنى خائنة بالضرورة،
ولا اليسرى جاسوسة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".