علي أنوزلا
عندما
قرّر المغرب الرسمي، عام 2020، الانخراط في اتفاقيات أبراهام المشؤومة، وتطبيع علاقاته
مع إسرائيل، كان القرار صادرا عن القصر الملكي الذي يُعتبر المرجع الرئيس في قرارات
السياسة الخارجية للمغرب. ويومها لاحظ الجميع الارتباك الذي بدا على رئيس الحكومة،
سعد الدين العثماني، رئيس حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، عندما وجد نفسه مرغما،
بحكم منصبه البروتوكولي، على التوقيع على اتفاق التطبيع أمام الملك، وهو الموقف الذي
سانده حزبُه آنذاك، وخرج الرئيس الحالي للحزب، عبد الإله بنكيران، الذي يدعو اليوم
إلى طرد ممثل إسرائيل من الرباط، يدافع ويبرّر توقيع حزبهم على اتفاق التطبيع بدعوى
"منطق الدولة". وحتى البرلمان، المفترض أنه يضم ممثلي الشعب، لم يُخبَر بالاتفاق
سوى عندما طُلبت منه المصادقة عليه، وبدون مناقشة. آنذاك ظهرت أصواتٌ كثيرة تدافع عن
إعادة تطبيع العلاقات بين الرباط وتل أبيب، معتبرة أن القرار يجد له صدى كبيرا داخل
أوساط المجتمع المغربي الذي لم يُسأل قط عن موقفه مما كان يجري. وفي ظل سياسة الخوف
التي باتت تهيمن على المجتمع المغربي بفعل القبضة الأمنية الكاتمة على الأنفاس، لم
يكن أيّ صوت يجرؤ على أن يعلو فوق صوت المطبّعين إلا من رحم ربّك.
وكان
يجب انتظار حدوث عملية مزلزلة مثل عملية طوفان الأقصى، لتَخرج الأغلبية الصامتة من
الشعب المغربي عن صمتها، وتعلن في مظاهرة حاشدة لم تشهد المدن المغربية مثيلا لها من
حيث العدد منذ مظاهرات ربيع الديمقراطية المغربي عام 2011، خرجت الأحد الماضي في العاصمة
الرباط، للتعبير عن رفض المشاركين فيها كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، وتأييدهم المبدئي
للقضية الفلسطينية ووقوفهم الدائم إلى جانب الشعب الفلسطيني المقاوم، وفي المقدمة حركات
المقاومة بكل تشكيلاتها الحزبية والحركية. كانت هذه المسيرة الحاشدة التي تداعت لها
عشرات الآلاف من جميع المدن المغربية ومن جميع الحساسيات والتعبيرات السياسية، وضمّت
كل شرائح المجتمع المغربي بلا استثناء من فقرء وأغنياء وطبقة متوسطة ومن نساء وأطفال
وشيوخ وكهول وشباب، كانت أكبر استفتاء شعبي على رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وكان
شعارها الأساسي هو "الشعب يريد إسقاط التطبيع"، وهو الشعار الذي تردّد على
طول المسيرة التي امتدت كيلومترين ونصف الكيلومتر واستمرت ساعات طوالا، أبدى فيها المتظاهرون
بتلقائية وعفوية كبيرتيْن عن قدرة خلّاقة في نحت الشعارات، وفي التعبير بأشكال وألوان
مختلفة عن مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية التي ما زالت تعدّ لدى مغاربةٍ كثيرين قضية
وطنية لا تقلّ قيمة أو شأنا عن قضايا الوطن الأخرى.
لقد
سبق أن كتبت هنا في "العربي الجديد" مراتٍ إن قرار التطبيع المغربي مع إسرائيل
فوقيّ أملته حسابات السلطة السياسية في المغرب ومصالحها، وتم فرضه فرضا على الأغلبية
الصامتة من الشعب المغربي، وإن جو الخوف العام الذي فرضته المقاربة الأمنية الكاتمة
على الأنفاس في المغرب هو الذي حال دون خروج الناس للتعبير عن رأيهم بكل حرية، الرافض
كل أشكال التطبيع والتقارب مع إسرائيل، وعملت الآلة الدعائية الرسمية، وبعض المنابر
والأصوات المأجورة، على تزيين قرار التطبيع وترويجه وتسويقه لدى الرأي العام المغربي
طوال السنتين الماضيتين، ليبدو كما لو كان قرارا شعبيا أو يلقى قبولا شعبيا، وكان يجب
انتظار رجّة كبيرة مثل التي أحدثها "طوفان المقاومة" في جسد الأمة، ليُسقط
الخوف ويُخرج الملايين، ليس في المغرب فقط، وإنما عبر العالم تأييدا للقضية الفلسطينية
التي ما زالت تعتبر القضية الوحيدة العالم القادرة على توحيد نضال الشعوب في الشرق
والغرب، في الدول الفقيرة وتلك الغنية، ضد الظلم والغطرسةـ ومن أجل الحرية والتحرّر.
لقد
أعادت الضربة الأخيرة القوية التي وجّهتها المقاومة إلى إسرائيل القضية الفلسطينية
بقوة إلى الشارع المغربي، وإن كانت هذه القضية لم تُبارحه قط، فهي تسكن وجدان مغاربةٍ
كثيرين، بما هي عليه ليست فقط قضية شعب يناضل من أجل التحرّر والاستقلال، وإنما قضية
تحمل قيما نبيلة كثيرة تميز الشعوب الحية، قيم التحرّر والحرية ورفض الظلم والنضال
من أجل رفعه والصمود والاستماتة على المبدأ والشجاعة والإقدام أمام كل المخاطر لرفع
التحدّيات الكبيرة والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الأرض والشعب والعرض والشرف. هذه
هي القيم المشتركة التي تجعل من هذه القضية متّقدة دوما، لا تفقد بريقها، ويتردّد صدى
إشعاعها عبر العالم من جاكرتا إلى بوغوتا، وتتوارث شعلتها الأجيال جيلا بعد جيل.
الكرة
الآن في ملعب السلطات المغربية التي ما زالت تقف موقف المتفرّج مما يجري في غزّة من
إبادة جماعية للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وقد تجنب الملك محمد السادس، الذي يرأس
"لجنة القدس” في خطابه المتلفز يوم الجمعة الماضي، أمام البرلمان، الحديث عمّا يجري
في غزة. والموقف المغربي الرسمي الخجول هو ما عبّر عنه بيان أصدرته وزارة الخارجية
المغربية، ويساوي بين الضحية والجلاد، ويدين قتل المدنيين من الجانبين، ويدعو إلى التهدئة
والعودة إلى طاولة المفاوضات، وهو الموقف الذي حملته الدبلوماسية المغربية إلى جامعة
الدول العربية، باعتبار المغرب الرئيس الدوري لهذا التنظيم الإقليمي، وتبنّته الدول
التي تربطها علاقات، أو تلك الساعية إلى ربط علاقات مع إسرائيل، ومعارضة الدول التي
ترفض التطبيع. أما موقف البرلمان المغربي فقد جاء صدىً للموقف الرسمي للسلطة في الرباط،
عبر رسالة جافّة، كُتبت بلغة خشبيةٍ ركيكة، لم تتضمّن أي تنديد أو إدانة لجرائم الإبادة
الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين العزّل في غزّة المحاصرة،
ولم تعكس، بل ولم تشر لا من قريب أو بعيد، إلى مسيرة الشعب المغربي الحاشدة التي عبّرت
عن رأي (وموقف) الأغلبية الصامتة من نساء الشعب المغربي ورجاله.
السلطة
السياسية المغربية اليوم مطالبةٌ بموقفٍ يرقى إلى مستوى الشعارات التي رفعتها مسيرة
الشعب المغربي في الرباط التي طالبت بإسقاط التطبيع، وقد أسقطته فعلا سياسيا وأخلاقيا
وشعبيا. وإلى مستوى موقفها الذي اتخذته عام 2000 عندما قرّرت إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي
في الرباط وطرد ممثل الكيان الصهيوني من المغرب، على أثر أحداث أقل شأنا من الجرائم
التي تُرتكب اليوم ضد الشعب والقضية الفلسطينيي. مطالبة بموقفٍ يرقى إلى مستوى المسؤولية
السياسية والأخلاقية التي تتحمّلها السلطة السياسية في الرباط بوصف عاهلها الملك محمد
السادس رئيس لجنة القدس.
لقد
برّرت السلطة المغربية قرارها الأحادي، المضي في التطبيع مع إسرائيل، بالرغبة في دعم
لغة الحوار والتفاهم لتسهيل التوصل إلى السلام العادل والشامل. وأمام الغطرسة بل والهمجية
الإسرائيلية التي تكشّر عنها إسرائيل اليوم، غير مباليةٍ بسماع صوت العقل ونداءات أصحاب
الضمائر الحية في العالم، فإن أقلّ قرار يمكن للمغرب الرسمي أن يتّخذه ردا على هذه
العجرفة والعنجهية الإسرائيلية، بل الإجرام الإسرائيلي، وتضامنا مع ضحاياه من المدنيين
العزّل من الأطفال والنساء الأبرياء، إعلان وقف التطبيع وإعادة إغلاق مكتب الكيان الصهيوني
في الرباط وطرد ممثله من المغرب. وهذا أضعف الإيمان.
اليوم هو وقت المواقف الثابتة التي
سيسّجلها التاريخ وتبقى في ذاكرة الشعوب، لأن الذين يوجدون تحت رحمة الهجمات الإسرائيلية
مهدّدون، في كل لحظة، بفقدان حياتهم أو حياة عزيزٍ عليهم، يحتاجون سماع المواقف المساندة
لهم والمواقف التي تدعم صمودهم والمواقف التي توقف الغزو الذي يتهدّدهم. أما انتظار
هدوء صوات المدافع، أو بالأحرى حتى يباد عشرات الآلاف من الأبرياء ويهجّر من نجوا،
فلا معنى آنذاك لمواقف المواساة والتعازي، ولا حاجة لقوافل المساعدة عندما تصل متأخّرة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".