كمال عبد اللطيف
لا أحد يعرف كيف عادت المقاومة الفلسطينية،
حاملة شعارات التحرير وأهازيج المشروع الوطني الفلسطيني. كان أحرار العالم جميعاً ينتظرون
عودتها، وكان الصهاينة، والغرب الاستعماري الذي منحهم أرض فلسطين، قد استأنسوا بعد
تجميد اتفاق مبادئ أوسلو، وتعطيل ترتيبات الحكم الذاتي ومفاوضات السلام، واستأنسوا
أيضاً، بسيولة عالمٍ لم يعد يلتفت إلى مخطّطاتهم الاستعمارية المتواصلة، ولم يعد بإمكان
مؤسّسات المنتظم الدولي تعطيل مسلسلاتهم في قمع الفلسطينيين، ولا الاعتراض على مختلف
أشكال الضمّ والاستيطان، التي لم يتوقّفوا عنها في ما بقي من الأرض الفلسطينية. كان
الصهاينة قد واصلوا، زمن الربيع العربي وتداعياته السلبية في المحيط العربي، التّغنّي
بأساطير التطبيع، وصفقة القرن ومشروع الشرق الأوسط الجديد، المشروع الذي تتحوّل فيه
دولة الاستعمار الاستيطاني إلى حارس لمصالح الغرب الإمبريالي، وضامن لصلاحية استمرار
كثير من الأنظمة الاستبدادية العربية.
لكن كيف انبعثت المقاومة الفلسطينية
في قلب هذه الأوضاع؟ كيف عادت في ظروف التراجع والتمزّق السائدين في المحيطين، العربي
والفلسطيني، وتصاعد العنف والغطرسة الإسرائيلية؟ إذا كان من المؤكّد أن التحدّيات الجديدة
التي يواجه الشعب الفلسطيني لليوم تقتضي ذلك، وأن تَمَدُّدَ آليات التطبيع في المحيط
العربي يدفع إلى بروز خيارات المقاومة، فإن أحداث التاريخ والسياسة لا تخضع دائماً
للشروط والسياقات المرتبطة بها وحدها، إنها ترتبط بكيمياء تتجاوز أحياناً المعطيات
المباشرة والظاهرة، كيمياء تتم فيها عمليات استعادة أو تركيب جملة من الشروط المنسيّة
والسياقات المهملة، إضافة إلى أنها تستفيد أيضاً من المتاح السياسي الذي تُوفِّره المراحل
الانتقالية في التاريخ. وطفرة طوفان الأقصى التي أزفت بشرى عودة المقاومة الظافرة،
تشكّل نقلة نوعية في تاريخ مواجهة الإحباط العربي الفلسطيني.
انطلقت المقاومة العائدة من عمق أفعال
الاستيطان التي يُواصِل الكيان الصهيوني القيام بها منذ سبعة عقود، أفعال ممارسة الشر
المطلق في جميع صوره، أي مختلف صور العنف والتمييز العنصري والغطرسة والإبادة والتطهير
العِرقي، ومختلف جرائم الحرب... ولا بد من التوضيح هنا أن الشر المطلق في سياق ما نحن
بصدده، يشير إلى الشرّ السياسي والأخلاقي الذي لا يتردّد الصهاينة في إعلانه عند حديثهم
عن مَحْوِ شعب كامل وإبادته.. ولهذا اعتبرت المقاومة، وهي تطلق على عودتها الجديدة
اسم طوفان الأقصى، لتشير إلى حركة الماء القوية والجارفة، بل القادرة أيضاً، على إبعاد
الشرّ الذي حملته أوروبا الإمبريالية إلى المشرق العربي.. طوفان الأقصى مؤهّلٌ لتعبيد
الطريق، التي يمكن أن تساهم في جرف الشرّ المطلق ودفعه خارج محيطها.
أدرك العالم أجمع اليوم بفعل قوة فعل
الطوفان الجارفة، أن ليلة 7 أكتوبر أعادت القضيّة الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، ذلك
أن غليان ما يقع اليوم في غزّة، وفي أرض فلسطين المحتلة، لن يكون أمام هول كل ما جرى
ويجري مجرّد لحظةٍ عابرة. إننا أمام عودة سيكون لها ما بعدها، وأكبر دليلٍ على ما نقول
جنون الشر المطلق، المتمثل بالقتل والإبادة ومختلف جرائم الحرب التي قام بها الصهاينة،
وهم يُمارسون، بكثير من العنف والهمجية، مختلف صور التطهير العِرقي، وقد فقدوا التوازن،
وبدأوا يطلقون النار بطرق عمياء.. أما المظاهرات المتجدّدة في مدن الغرب الكبرى، المندّدة
بالجرائم الصهيونية والمطالبة بالحقّ الفلسطيني، فقد حقّقت إجماعاً غير مسبوق في تاريخ
القضية الفلسطينية. وسيكون لها، في سياق التحولات الجارية في عالمنا، ما يساعد على
بناء رأي عام جديد في موضوع التحرّر الفلسطيني.
لم يعد الكيان الصهيوني يتردّد في الحديث
عن الإبادة والاجتثات والترحيل والقتل في الليل والنهار. وأصبحت مواقفه تستعيد مواقف
اليمين الغربي الداعم لسياساته وحروبه. كذلك أصبح الإعلام الغربي يردّد، من دون خجل،
اللغة الحربية التي تستخدمها الصهيونية، وهي تطلق على المقاومة الفلسطينية أسماءً وصفاتٍ
لا علاقة لها بخيارات المقاومة الهادفة إلى تحرير أرض فلسطين من المستوطنات الصهيونية،
التي تواصل إسرائيل استنباتها في ما بقي من التراب الفلسطيني.
ترسم المقاومة الجديدة أحرفاً في جسم
الكيان الصهيوني، إنها تخترق جدار الأوهام التي بدأ يعتقد برسوخها، متناسياً مكر التاريخ
وتطلّعات الأحرار في العالم. ولهذا جمعنا، في سياق ما سبق، بين الحرائق والخراب وزغاريد
ولوج دروب التحرير مجدّداً.. لأننا نؤمن بأن عودة المقاومة إلى طريق المواجهة، تسمح
بإمكانية الجمع الذي سطّرنا في جمل وكلمات، حيث تلوح تباشير العلامات الضوئية المأمولة،
بعد تعميم أدوار الفعل المقاوم وتوسيعها.
تُبرز مبادرات المقاومة العائدة أنه
لا يمكن إبادة الفلسطينيين، ولا يمكن تهجيرهم، لا من ديارهم وقد هُدّمت فوق رؤوسهم،
ولا من أرضهم، وقد اقتُلِع كثير منهم منها، تُبرز أنهم في فلسطين باقون.. وأساطير الصهاينة
المُرَتَّبة من القوى الغربية، في سياق حساباتٍ دولية، ذات صلة بأزمنةٍ خلت لم تعد
مجدية. المقاومة الجديدة أفق سياسي آخر، تؤطّره اليوم تحوّلات كبرى، يجري تأسيسها في
عالم جديد، ومخطئ من يعتقد أن تدمير غزّة وقتل أطفالها، والشر المطلق الذي تمارسه إسرائيل
ومن معها، ستطفئ جذوة شرارات التاريخ الجديد، الذي صنعه طوفان الأقصى.
لا نتردّد في الإقرار بأن زغاريد طوفان
الأقصى التي تملأ أرض فلسطين تُعدّ، بمعايير الحرب والتاريخ، خطوة أولى في دربٍ طويل،
خطوة أولى تقطع مع أوهام الكيان الصهيوني، وقد استباحت مخابراته اليوم كثيراً من الفضاءات
في المحيط العربي، زمن التراجعات الكبرى وصفقة القرن.. نحن أمام خطوة أولى في طريق
القطع مع مختلف تجليات الشر المطلق، التي تعلنه خلية الحرب الأميركية الصهيونية.
يساهم طوفان الأقصى، عندما تغمر مياهه
الجارفة مواثيق التطبيع، التي منحت "الموساد" بطاقة اختراق المجتمعات العربية،
في تعطيل بنود التطبيع وبرامجه الهادفة إلى القضاء على مشروع التحرّر الوطني الفلسطيني..
إنها تُعيد للمشروع أهميته، في زمنٍ تختلف كثير من شروطه عن شروط النصف الثاني من القرن
الماضي ومقتضياته. لهذا، نتصوّر أنه كلما كانت ضربات المقاومة الجديدة قويةً وموجعة
سمحت بتوسيع دروب وآفاق التحرير.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".