ياسر أبو هلالة
تعبّر صدمة رئيس أعظم قوة في التاريخ،
جو بايدن، بـ"7 أكتوبر" منذ اللحظة الأولى عن التحوّل التاريخي الذي أنتجته
المعركة. اعتقد بايدن أن العالم يمرّ بمرحلة انعطافٍ كبرى، وتلك اللحظة "تحدّد
كيف ستبدو العقود الستة أو السبعة المقبلة". وجاء تصوّر بايدن الذي نشره موقع
أكسيوس بعد اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، وكان الأخير لا يزال يشعر بالصدمة
من الهجوم. تاريخيّة المعركة واستراتيجيّتها لا تقلّلان من التضحيات غير المسبوقة عالمياً،
فما ألقي على غزّة يفوق نسبيّاً ما ألقي على هيروشيما وبرلين والعراق وأفغانستان، وحجم
الدمار والشهداء يفوق كثيرا ما تعرّضت له أي مدينة في العالم، بما فيها غرنيكا الإسبانية
في الحرب العالمية الثانية، والتي خلّدها بيكاسو وصارت جداريةً للأمم المتحدة، تجسّد
قيم البطولة والشجاعة والصمود، تماما كقيم الحيوان في الوحشية والقسوة، فضلاً عن الخيانة
التي جسّدها تحالف الجنرال الديكتاتور فرانكو مع أعداء الشعب من النازيين والفاشيين.
في النهاية، بقيت غرنيكا شاهدةً على ذلك ورحل النازيون والفاشيون.
بعيداً عن الغيب والتاريخ والفنون وقبل
النهاية، توجد أفواه أطفالٍ ليس من يسدّ رمقها. وبحسب الإحصاءات الأممية، واحدٌ من
هؤلاء بين كل ثلاثة. توجد نكبةٌ مكثّفةٌ أقسى من النكبة الأولى كمّاً ونوعاً، النكبة
الأولى التي ولدت منها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين غير الثانية التي توشك
أن تُقتل فيها، على سمع العالم وبصره، هذه الوكالة، وهي أعرق مؤسّسة إغاثية متمرسة
ومحصّنة بأعلى تشريع دولي، ويجري استبدالها بما وصفتها مجلة الإيكونومست "مسرحيات"
الإنزال، وبالأرصفة البحرية المؤقّتة المسمّاة زوراً "ميناء". ولم يبق على
بايدن إلا أن ينافس حركة حماس في أنفاقها، ويفتح نفقاً مؤقتاً لإدخال المساعدات! وهذا
كله حتى لا يجرح مشاعر المحتلّ ويحرجه بفتح السجن لإدخال الغذاء والدواء والماء للشعب
المحكوم عليه بالسجن المؤبّد من الميلاد إلى الاستشهاد، مع أن إدخال المساعدات قرارٌ
صدر عن أعلى هيئةٍ قضائيةٍ دولية، محكمة العدل الدولية التي ترأستها قاضيةٌ أميركية.
هزّت "7 أكتوبر" عرش بايدن في ميشيغن، ولذلك يتحرّك، واستدعت تعاطف يهوديٍّ
يفوز بالأوسكار، وزلزلت الأرض من تحت أقدام ريشي سوناك في لندن بعودة اليساري العريق
جورج غالاوي بأكثرية الأصوات في الانتخابات البريطانية. ولا تزال ارتداداتُها تهدّد
العالم العربي كله.
يتعامى بايدن عن ذلك كله، وكأنه لا
توجد "أونروا" ولا محكمة عدل دولية، ولا معاناة تبثّ على الهواء مباشرة.
مع لحظة 7 أكتوبر، فتحت عيون بايدن، كما العالم، على حقيقة أن القضية الفسطينية حيّة،
وفي قمّة عنفوانها، ولم تشبع موتاً كما كان يعتقد. وبايدن هو أكثر الرؤساء الأميركيين
صهيونيةً، وهو يفاخر ويجاهر بصهيونيّته التي فاجأت مناحيم بيغن إبّان غزو لبنان عام
1982. وتأكّدت صهيونيّته بعد 7 أكتوبر، من زاوية القلق على المشروع الصهيوني الذي بدا
مهدّداً أكثر من أي لحظةٍ في تاريخه.
في تلك اللحظة، انهار كل وهم الاحتلال
المريح المربح منذ "أوسلو". وبدا واضحاً أن على الاحتلال وداعميه دفع الكلفة
عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. ولذلك عقد بايدن مائة اتفاقية تسليح مع الجيش الإسرائيلي،
أعلن عن اثنتيْن منها. أي صفقات يومية وليست شهرية. أدرك العجوز الصهيوني بايدن الذي
زجّ كل قدرات أميركا أن إسرائيل غير قادرةٍ على حماية نفسها، اعتماداً على ذاتها. لكنه
لم يتخيّل أنها ستكون حرب الشهور الستة وزيادة، وليست كما حرب الأيام الستة. لم يتخيّل
بايدن الذي شهد كيف تهاوى نظاما "طالبان" وصدّام بأيام أمام الجيش الأميركي
بقوة من دون التي استُخدمت في غزّة بكثير. شاهد الاجتياح السريع قبلها للبنان وترحيل
منظمّة التحرير عبر ميناء بيروت (لذلك طرح الأميركان والإسرائيليون فكرة ترحيل
"حماس" من غزّة)، وهو من الجيل الذي شاهد هزيمة الجيوش العربية في حرب الأيام
الستة.
جسّدت حرب الشهور الستة نموذجاً مناقضاً
تماما لحرب الأيام الستة، ليست دول الطوق التي تحاصر إسرائيل، إنها غزّة المطوّقة برّاً
وجوّاً وبحراً، تصمد بعد أطنان القنابل والتجويع والحصار ستة أشهر، وتلك دولٌ محوريةٌ
تنهار في أقلّ من ستة أيام. وتقاتل بشكلٍ أذهل العدو والصديق، وبات من المعتاد إعلان
العدو عن مفاجآتٍ تكشف قدرات المقاومة، وليس آخرها عما نشر عن اختراق استخباراتِها
هواتف جنود العدو وكاميرات المراقبة في مستوطناته، وها هي المقاومة تضرب دبّابات العدو
أول من أمس في الزهراء، عبر نفق ومن أكثر من نقطة، مع أن لواء غزّة فقد خيرة مقاتليه
وقادتَه بعد موجتين هجوميتين، كل واحدة منهما بقوام فرقتين، وصبّت عليها أطنان القنابل
لذلك يحاول نتنياهو ما استطاع إفشال
صفقة التبادل التي تنتهي بوقف إطلاق النار، لأن ذلك يعني انتصار "حماس"،
وعودتها ليس إلى قيادة غزّة، بل قيادة المشروع الوطني الفلسطيني. كان وزير الدفاع غالانت
أكثر واقعيةً منه في مجلس الوزراء، عندما تحدّث عن السيناريوهات السيئة، وأولها عودة
"حماس"، وكلها تعني فشل العدوان. وغالانت وغانتس وبايدن ومن شايعهم من الصهاينة
العرب حريصون على إسرائيل، لا على نتنياهو. ولذلك قدّموا مشاريع تعيد السلطة إلى غزّة،
باختلاف ماجد فرج ومحمّد دحلان، ويبدو أن الأميركان أقرب إلى الأول ونتنياهو أقرب إلى
الثاني. وما سرّبته "يديعوت أحرنوت" يلخّص تصوّر نتنياهو "يفترض أن
يكون للإمارات دور كبير في المخطّط المستقبلي. تشخّص إسرائيل مصلحة إماراتية لأن تصبح
الإمارات جهة إقليمية مؤثرة وخليفة لقطر كمتنفذة في الساحة الفلسطينية، لتثبت أن اتفاقات
أبراهام تخدم المصلحة العربية والإسلامية بعامة. وللإمارات وسائل مالية للاستثمار في
إعمار غزّة. وقد لاحظ إسرائيليون زاروا أبوظبي أخيراً نية للربط بين إعمار القطاع ومشروع
اقتصادي - سياحي، وربما تكنولوجي أيضاً، تجني منه الإمارات مردوداً عظيماً. والنموذج
هو المشروع السياحي الذي تخطّط له الإمارات في رأس الحكمة في مصر على شاطئ البحر المتوسط،
بعد أن اشترت الأرض بمبلغ عظيم يقدّر بـ 35 مليار دولار. وكُيّف قطاع غزّة بأن يكون
مشروعاً مُجدياً أكثر بكثير من قطاع الشاطئ المصري الهزيل، لأن قطاع غزّة يعيش فيه
مئات آلاف الشبان من ذوي المؤهلات والقدرات المهنية العالية". وتضيف الصحيفة
"كما يجدُر بالذكر أن محمّد دحلان يسكن في الإمارات منذ سنين، وهو غزّي الأصل،
...، ويحظى بأذنٍ مُنصتة ودعم من القاهرة أيضاً، ما يجعله مرشّحاً مناسباً لإدارة الحكم
المدني في القطاع بعد الحرب من زاوية نظر إسرائيلية أيضاً". وذلك كلّه في إطار
القصف بالمساعدات، بحيث تحقق ما لم تحققه أطنان القنابل.
في المقابل، تراهن "حماس"،
حسب تحقيقٍ مطوّل لـ "وول ستريت جورنال" على قدرتها على التملّص من أفضل
الجهود التي يبذلها الإسرائيليون لسحقها، الأمر الذي يسمح لها بالتجدّد وتحقيق النصر
السياسي. ويقول قادة ومحلّلون إسرائيليون للصحيفة النافذة "إن حماس استخلصت الدروس
خلال فترة التوقف في نوفمبر/ تشرين الثاني، وتحوّلت إلى هجمات الكرّ والفرّ من مجموعات
صغيرة من رجلين أو ثلاثة رجال، وأحياناً فرد واحد فقط" تقابل قائد دبّابة. يتذكّر
أوشر، وهو سائق دبّابة في اللواء الرابع الإسرائيلي، إصابته بقنبلة لاصقة في خانيونس
في ديسمبر/ كانون الأول. وبينما كانت وحدته تبحث عن فتحة نفق، ركض أحد مقاتلي
"حماس" عبر الشارع وألصق القنبلة بالدبّابة بالقرب من موقع السائق.
"هناك شخصٌ ما في الخارج" سمع أوشر أحد رفاقه يقول قبل انفجار العبوة مباشرة.
أصابته قوة الانفجار عبر درعه. يتذكّر أوشر قوله: "السائق بخير"، على الرغم
من أنه لم يكن كذلك. وقال: "لم أستطع أن أرى أو أسمع، لقد أصبت بارتجاج".
تابع تدريبه وقاد الدبابة إلى الخلف إلى نقطة الإخلاء المخطّط لها مسبقًا. أخبره طاقمه
أن وجهه ينزف، وقال الرقيب الإسرائيلي كوري فيلدمان عن تجربته القتالية في غزّة:
"لم أر شخصا واحدا". وقال: "لقد تعرّضنا لإطلاق النار كل يوم"
لكن العدو عادة ما يختفي بسرعة. "لم يبقوا هناك فترة كافية للمشاركة في معارك
بالأسلحة النارية". كتب ألون بن دافيد في "معاريف": "في بداية
الشهر السادس للحرب، تبدو إسرائيل عالقةً، مراوحة في المكان، في الجنوب وفي الشمال
على حد سواء. ومثل مقامر يصرّ على وضع كل حجارته على رقم واحد في الدولاب، يصرف الجيش
الإسرائيلي كل مقدّراته على ملاحقة يحيى السنوار - الملاحقة العقيمة - غير أن كومة
حجارة اللعب آخذة في التناقص، سواء بالذخيرة، أم بتآكل القوات وأساسا بالشرعية الدولية.
ما بدأ كمناورة سريعة ومصمِّمة، حققت إنجازات عسكرية مُبهرة، تصبح في الأسابيع الأخيرة
غرقاً بطيئاً في شبكة الأنفاق التي لا تنتهي في خانيونس".
مشهد القتال الضاري إلى اليوم هو مفتاح
المستقبل الفلسطيني، العالم لا يقدّم للضحايا غير الدموع والمساعدات، ولو عبر المظلات،
الحقوق تقدّم للمقاتلين. وبحسب تقرير المخابرات الأميركية، لا يزالون قادرين على مواصلة
القتال، "إسرائيل ستواجه صعوبة في هزيمة حماس". ويضيف التقرير أن إسرائيل
"لا تزال تركّز على تدمير حماس، التي يدعمها سكانها على نطاق واسع". علاوة
على ذلك، من المحتمل أن تواجه إسرائيل "مقاومة مسلحة متواصلة من حماس لسنوات مقبلة،
وسوف يكافح الجيش من أجل تحييد البنية التحتية تحت الأرض لحماس، والتي تسمح للمتمرّدين
بالاختباء، واستعادة قوتهم، ومفاجأة القوات الإسرائيلية".
يعكس الصهيوني دينس روس، الضليع في
ما تسمّى "عملية السلام" في مقاله أخيراً في "فورين أفيرز"، التسليم
بحقيقة المقاومة الدائمة، في مواجهة الاحتلال، "وإذا كانت حماس ستستمر كمجموعة
إرهابية في غزّة، كما تتوقّع الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فيتعيّن على نتنياهو
أن يتقبل حقيقة مفادها أن أي انتصار في القطاع من غير الممكن أن يكون كاملاً".
و"في إسرائيل هناك وجهة نظر معاكسة. وبسبب يوم 7 أكتوبر، أصبح الإسرائيليون من
مختلف ألوان الطيف السياسي مقتنعين بأن الدولة الفلسطينية سوف تنتهي في نهاية المطاف
إلى الخضوع لهيمنة أو قيادة حماس أو الجماعات المشابهة لحماس. وفي الوقت الحالي، لا
يرون أي تمييز بين حماس والفلسطينيين، خصوصاً في ضوء استطلاعات الرأي التي تظهر الدعم
الفلسطيني لما فعلته حماس في 7 أكتوبر والتصريحات التي تنكر الفظائع". وهذا صحيح،
الشعب الفلسطيني كله مقاوم، باستثناء محمود عبّاس وقائد قواته ماجد فرج، الذي يقاتل
المقاومين في الضفة الغربية، بكفاءة تؤهله للانتقال إلى غزّة. والصحيح أن تنتقل غزّة
إلى الضفة لا العكس، وإن فعلها أبو مازن يوقف طوفان الخذلان ويضمن مكانته في التاريخ
والوجدان قائدا في معركة التحرير لا جنديا في خدمة الاحتلال. مؤسفٌ ألا تحرّك كارثة
كهذه قلبه ليعانق إسماعيل هنيّة الذي استشهدت حفيدته وأكثر من 70 من أسرته، ولا تشعره
بطولة المقاومة وعبقريتها بالفخر. ألم يسمع مدير الشاباك السابق الذي تحدّث عن محمد
الضيف بانبهار وقال إنه لو كان إسرائيليا لقاد دورية هيئة الأركان، أهم تشكيل عسكري
يخرج منه قادة الجيش الإسرائيلي. للأسف، إنه معجب بماجد فرج الذي لا يطلق النار إلا
على أبناء شعبه، وبذلك يجسّد شخصية الديكتاتور الجنرال فرانكو في لوحة غرنيكا.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".