عبد الباسط سيدا
بات
الضعف العربي الرسمي واقعاً مفضوحاً مكشوفاً أمام الجميع. وجامعة الدول العربية في
واقعها الراهن أعجزُ من أن تقدّم المبادرات، وتعمل على تنفيذها لمعالجة المشكلات المزمنة
ضمن الدول العربية نفسها، ناهيك عن التي بينها وبين دول الجوار، وهي مشكلات تسبّبت
في شل الدول (سورية، لبنان، العراق، تونس، ليبيا، السودان)، وأدّت إلى تخريب الاجتماع،
وتدمير العمران، وتبديد الثروات والموارد البشرية. يؤكّد ذلك ما حدث ويحدُث في غزّة
منذ أكثر من شهرين نتيجة الحرب الإسرائيلية على المدنيين، وأغلبهم من الأطفال والنساء
والشيوخ والمرضى، تحت شعار الانتقام من غزّة وأهلها ردّاً على عملية طوفان الأقصى التي
نفّذتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي؛ وهو شعارٌ يجسّد عقلية متغطرسة تمارس العقاب
الجماعي بحقّ الأبرياء، وتهدّد كل منتقد للانتهاكات ومطالب باحترام حقوق الإنسان، بمختلف
الصفات القدحية، حتى أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، نفسه لم يسلم
شخصياً من تهديدات مسؤولي (وممثلي) الحكومة الإسرائيلية التي تعدّ من أكثر الحكومات
يمينية وتشدداً في تاريخ إسرائيل، وهي تهديدات وصلت إلى حد المطالبة بإقالة الرجل.
فالدول العربية بصورة عامة، ما عدا دول مجلس التعاون الخليجي، وتلك التي فيها مؤسّسات
أمنية وعسكرية موحّدة متماسكة ومنسجمة مع القيادة السياسية، إلى جانب علاقاتها المقبولة
نسبياً مع شعوبها، تعاني من أزماتٍ بنيويةٍ ووجوديةٍ تهدّد الوحدة الاجتماعية والجغرافية
للدول المأزومة، خصوصا في أجواء مساعي دول إقليمية، وأخرى مؤثرة على المستوى العالمي
لاستغلال الظروف والتمدّد والتغلغل إلى مفاصل الدول المعنية؛ والتحكّم بقراراتها وتوجيهها
نحو المسارات التي تنسجم مع حساباتها ومصالحها، سواء التكتيكية الراهنة منها أو الاستراتيجية
بعيدة المدى. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى سورية ولبنان والعراق واليمن والسودان
وليبيا.
تعاني
هذه الدول من انقسامات داخلية بيْنية مفتوحة علنية، أو كامنة مضمَرة قد تتعرّض للانفجار
في أي لحظة، إذا ما توافقت التوجّهات الداخلية مع الحسابات الإقليمية والدولية، وتبلورت
معالم استقطابٍ حادّ بين القوى المجتمعية التي جعلتها عقودٌ من سياسات الاستبداد والفساد،
وقطع الطريق على إمكانية ظهور بديل وطني مقبول، يمتلك الأهلية والمصداقية لطمأنة سائر
المكوّنات المجتمعية الوطنية، مصفوفة ضمن خانات عمودية تتحكّم فيها قوى مفروضة بناء
على حسابات إقليمية أو دولية، ولا تمتلك الأهليّة والمصداقية لطمأنة المكوّنات المجتمعية
الوطنية الأخرى، عبر احترام خصوصيّاتها وحقوقها، وضمان دورها المستقلبي الإيجابي الفاعل
على صعيد المشاركة العادلة في الإدارة والثروة، والحرص على مستقبل الأجيال المقبلة.
فالأنظمة الجمهورية العسكرية العربية لم تتمكّن من بناء مؤسّسات مستقرّة حتى على صعيدي
الجيش والأجهزة الأمنية؛ وإنما اعتمدت مبدأ الولاء المطلق للحاكم، وكانت خاضعة باستمرار
لتقلبات مزاج الأخير، وتحالفاته وارتباطاته الإقليمية والخارجية. وبطبيعة الحال، كان
هذا الحاكم شبه المؤلّه يتعاون مع زمرةٍ محدودة
العدد، قابلة للتعديل والتحكّم عبر التهميش أو التغييب إبعاداً أو اغتيالاً؛ لذلك انهارت هذه الأنظمة مع رحيل الحاكم الأبدي
أو ترحيله، أو حتى قتله، لتعيش الدولة مرحلة فوضى عارمة، يسود فيها الفساد والتدخلات
الأجنبية، إلى جانب الصراعات الداخلية، وانتظار كل طرفٍ اللحظة التي يعتقد أنها مناسبة
حاسمة للانقضاض على الخصم المنافس المتربّص.
وجدير
بالذكر هنا أن الأنظمة المعنيّة اعتمدت سياسة شعبوية تمثلت في الالتحاف بشعارات قومية اشتراكية كبرى، مثل: تحرير فلسطين
وعربستان ولواء إسكندرونة...، وتوحيد الوطن العربي، وربط النضال القومي مع الطبقي.
كما سوّقت نفسها باسم ثوراتٍ مزعومةٍ كانت في حقيقتها انقلاباتٍ ومؤامراتٍ على الرفاق
والشركاء، وهي انقلاباتٌ أثبتت الوقائع الملموسة لاحقاً أنها كانت كارثية على حاضر
شعوب الدول التي عاشتها ومستقبلها، فقد دمّرت تلك الأنظمة المجتمع الأهلي التقليدي
في الدول المستحدثة التي كُلفت بإدارتها، واستخدمت كل أساليب البطش والقوة لإجبار الناس
على التقيد بالأوامر، بغية تحاشي الاتهامات والعقوبات الكبرى.
وجديرٌ
بالذكر هنا أن هذا المجتمع (الأهلي) كان قد تشكّل على مدى عقود، تمكّنت خلالها نخبه من الحصول على ثقة الناس واحترامهم
بفضل المؤهّلات والمواقف التي أثبتت قدرة تلك النخب على القيام بمهمة الوسيط القادر
على تخفيف الصدمات بين الشعوب والسلطات، بل وتجسير الهوة بينهما، وتدوير زوايا الاختلاف،
والبحث عن الحلول الممكنة. وذلك بقصد منع انفجار الصراعات، والعمل على فتح الآفاق أمام
التفاهمات التي تكرّس التوازن والاستقرار على الصعيدين، الاجتماعي والسياسي. وما دفع
الأمور نحو مزيدٍ من التأزّم في الدول المعنيّة هنا انسداد الأبواب أمام تشكّل مجتمع
مدني مستقلٍّ فعليٍّ بالمقاييس المعاصرة، لا مجرّد واجهات تزيينية للأنظمة المعنية،
فقد كان في مقدور هذا المجتمع ملء الفراغ الذي حدث نتيجة تدمير المجتمع الأهلي التقليدي.
وامتد
التخريب في الأنظمة المعنيّة ليشمل الجانب السياسي أيضاً؛ إذ جرى منع الأحزاب؛ أو إخضاعها
لحملات استهدفت تقسيمها وتدجينها، وجعلها مجرّد استطالات شحمية لوضعية الفساد والإفساد؛
حتى فقدت المصداقية، ولم تعد قادرة على فرض نفسها البديل الممكن. بل اللافت أن هذه
الأنظمة، ومعارضاتها، ركّزت على الشعارات الكبرى التي كان الغرض منها قطع الطريق على
المطالبات الشعبية بضرورة التركيز على الأوضاع والحاجات الداخلية، بل منعها، وتوصيف
أصحابها بمختلف السمات القدْحية، وتوزّعت تلك الشعارات المرفوعة، سواء من الأنظمة أو
من المعارضات بين توجهين أساسيين: الأول القوموي الذي كان يقدّم نفسه بنكهة اشتراكية
منسجمة مع الموضة التي كانت. واتّخذ الثاني من الإسلاموية الموشّاة قوموياً أيديولوجية
له.
وغالباً
ما كانت المبالغات التي كرّست التطرّف في طروحات الطرفين المتصارعين (الحكومات والمعارضات)
وسلوكياتهما، وهو التطرّف الذي لم يساعد في معالجة القضايا الداخلية بموجب مشاريع وطنية
كان من شأنها التركيز على الأوضاع الداخلية أولاً، وطمأنة سائر القوى المجتمعية والسياسية،
عوضاً عن زرع بذور الشك والتوجّس بينها، وسد المنافذ أمام الثقة الوطنية المتبادلة،
إذا صحّ التعبير. هذا في حين أن الأوضاع في الدول الخليجية تميّزت بصورة عامة بالاستقرار،
وغياب الصراعات الدموية العنيفة على السلطة، مقارنة، على سبيل المثال، بما كان عليه
الحال في سورية والعراق واليمن والسودان وليبيا والجزائر، وهي الدول التي تشاركت في
ما بينها بالأيديولوجية القومية الاشتراكية. وذلك في الفترة التي امتدت ما بين ستينيّات
القرن المنصرم وتسعينيّاته.
وفي
هذا المجال، هناك تفسير نمطي يقدّم عادة لتفسير وضعية الاستقرار الخليجي مقارنة مع
الأوضاع التي كانت، وما زالت، سائدة في دول الأنظمة الجمهورية العسكرية، أن الإمكانات
والثروات المادية الكبيرة هي التي حالت، وتحول، دون الانفجارات الداخلية، فلدى هذه
الدول القدرة على تأمين المطالب الأساسية لمواطنيها، خصوصا في ميادين التعليم والعمل
والصحة والخدمات الاجتماعية، والبنية التحتية، ومكّنها ذلك كله من التمتّع بالاستقرار
المستدام.
قد
يبدو هذا التفسير مقبولا لأول وهلة، ولكننا إذا أخذنا بالاعتبار على سبيل المثال واقع
نماذج ليبيا والعراق والجزائر، وحتى مصر، سنلاحظ أن ثروات هذه الدول لا تقلّ عن ثروات
دول الخليج؛ غير أن المشكلة تتمثل في عدم الاستخدام الرشيد لها، كما تتشخّص في حالات
الفساد الكبرى التي تلتهم، بأرقامها الفلكية، الإمكانات الوطنية لصالح أفراد محدّدين،
ومجموعات محدّدة من التسلّط على الحكم والثورة بالتعاون مع القوى المتحكّمة عالميا
على المستويين، السياسي والاقتصادي. هذا في حين أن قطاعات واسعة من شعوب هذه الدول
تعاني من الفاقة والحرمان، وتفتقر إلى أبسط الخدمات الحياتية كالكهرباء والماء النظيف،
والرعاية الصحية، والمواصلات العامة، هذا ناهيك عن تفاقم المشكلات البيئية والاجتماعية
بكل أسمائها وتدريجاتها في الدول المعنية.
وهنا
نرى ضرورة البحث عن تفسيرات أخرى خارج نطاق التفسير الخاص بفائض الثروة، رغم أهمية
دور هذا العامل في تحقيق الاستقرار عبر تأمين الاحتياجات الراهنة، والاستعداد للتحديات
المستقبلية. ومن التفسيرات التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتعمق، يُشار هنا إلى
طابع الاعتدال الذي تتميّز به المجتمعات الخليجية، ونعني بذلك الاعتدال القومي والديني-المذهبي
البعيد عن الشعارات الاستفزازية التي غالباً ما تعتمد التخوين والتكفير سلاحاً لتهديد
الخصوم، وشلّ قدراتهم في ميدان التأثير على الأوضاع الداخلية. وليس هذا الاعتدال سمة
فطرية أو وراثية مغروسة لدى المواطنين في هذا المجتمع دون ذاك، وإنما هو حصيلة عملية
تراكمية كان من بين أهدافها الأساسية المحافظة على التماسك المجتمعي، بالإنسجام مع
الأعراف والقواعد والعقائد المتوافقة مع الهوية المجتمعية الوطنية، القابلة للارتقاء
إلى مستوى تحدّيات العصر والتكيّف الإيجابي مع نتائجها. وهنا ربما يكون من المناسب
العودة ثانية إلى أهمية المجتمع الأهلي الذي ما زال فاعلاً في الدول المعنيّة، ويساهم
بنشاط في عملية منع حدوث الصدامات الجماعية العنيفة التدميرية داخل المجتمعات نفسها،
وبين هذه الأخيرة والأنظمة السياسية التي تقود الدول المعنيّة.
وبالنسبة إلى الأنظمة التي تستمد استقرارها
المفروض بالقوة من سطوة الدولة العمقية وقدرتها على التحكّم والتوجيه، فهو أمر يحتاج
مساحة أوسع، ووقتا أطول لإجراء بحثٍ مستفيض، يقوم على المقارنة الواعية بين مختلف النماذج؛
لذلك نرى أنه سيكون من الأفضل إرجاء هذا الأمر إلى مناسبة أخرى.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".