عيسى الشعيبي
قد يحتاجُ الأمر توضيح معنى المصطلحيْن
أعلاه، قبل الشروع في تناولهما، وقد فرضا نفسيْهما، بالحدّ الأدنى، على جدول الاهتمام
الفلسطيني، المتشكّل في خضم حرب الإبادة الجارية في قطاع غزّة خصوصاً، وفي الضفة الغربية
أيضاً، ما جعل كلا من "التهجير القسري" و"الهجرة المعاكسة" مسألتين
افتراضيتين، تقعان على الهامش، ولا تستأثران بالقدر الكافي من النقاش والتداول، نظراً
إلى هول المشاهد المتدفقة طوال الوقت من القطاع الذي باتت يوميّاته المأساوية تتصدّر
معظم الاهتمامات العربية والدولية.
مؤكّد أن مخاطر التهجير القسري، الذي
يطلّ برأسه مجدّداً في هذه المرحلة العصيبة، ويلوّح برايته السوداء من بين أدخنة الحرب
الانتقامية المجنونة، كان هدفاً مركزياً للمشروع الصهيوني من البداية، ان لم نقل إنه
كان يتموضع، ولا يزال، في موضع القلب من تلك الاستراتيجية القائمة على أزعومة
"دولة لشعبٍ بلا أرضٍ على أرضٍ بلا شعب"، وهو ما تجلى بقوة في أول موجة تهجير
قسري، أو قل طرد بالقوة العارية عام 1948 في ما عُرف باسم النكبة، وتكرّر في حرب
1967 بصورة مشابهة، وها هو يدقّ الأبواب مرّة ثالثة.
أما تعبير الهجرة المعاكسة فهو مصطلح
ظلّ باهت الحضور، ولا محلّ له من الإعراب، حيث بقي هذا الأمر محض أمنية خالصة، تراود
النفوس الحالمة برؤية انكسار ما في خط الهجرة اليهودية المتواصل صعوداً منذ مائة سنة
وأكثر، كما استمرّ هذا الحلم العزيز مجرّد حلم بعيد المنال حتى الأمس القريب، إلى أن
حدث طوفان الأقصى العظيم، حيث بات من الممكن الحديث لأول مرة، ومن دون أضغاث أحلام،
عن هجرة يهودية معاكسة من الداخل إلى الخارج، معزّزة بحالة نزوح من الأطراف، في الشمال
والجنوب، إلى المركز، وهو ما شكل تحوّلاً بالغ الأهمية، إن لم نقل انقلاباً لا سابق
له في مسارٍ كان يمضي باتجاه واحد.
وليس من شك في أن الهدف الرئيس وراء
الحرب الشاملة على غزّة يتجاوز مسألة القضاء على المقاومة وتحرير الأسرى بالقوة، ويتعدّاه،
من دون إعلان مباشر، إلى هدف تهجير الفلسطينيين من القطاع المحاصر، وفق ما تلهج به
بعض الألسنة صراحة، وتشير إليه وقائع الإخلاء والطرد بالجملة إلى منطقة رفح الحدودية،
فضلاً عن الضغط على القيادة المصرية، بصورة علنية فظّة، للقبول بهذه الفكرة الشيطانية،
الرامية إلى استكمال مخطط تطهير كامل الأرض الفلسطينية من أصحابها الشرعيين، على أن
تلي ذلك خطوة مماثلة تجري في الضفة الغربية، وفق ظروفٍ حربيةٍ مشابهة.
ولعلّ المفارقة الفارقة، المتجليّة
في هذه اللحظة السياسية الدامية، أنه في الوقت الذي تحاول فيه دولة الاحتلال القيام،
وسط مقاومةٍ عنيدة، ومعارضة عربية ودولة قوية، بأكبر عملية تهجير للفلسطينيين في زمن
الصورة والأقمار الصناعية، تشهد بأم عينيها أول هجرة معاكسة كبيرة، نوعية ومفاجئة،
من داخل الداخل في المدن والحواضر المترفة، شملت، وفق مصادر صحافية إسرائيلية معروفة،
نحو 370 ألف مستوطن، خلال أول شهرين من زمن طوفان الأقصى، والحبل على الجرّار، ناهيك
عن مئات الألوف من المستوطنين النازحين من غلاف غزّة وكريات شمونة وأخواتها في الجليل
الأعلى (تقدّرهم مصادر بنحو نصف مليون نسمة).
وعليه، بدأت الدولة المأزومة ديمغرافياً منذ النشأة،
الهشّة سكّانياً بالفطرة، الباحثة بالسراج والفتيلة عن كل يهودي في القارّات الخمس
يقبل الهجرة إلى أرض اللبن والأمن والعسل، بدأت تنظر في مرآة نفسها، لتجد ذاتها بعد
"طوفان الأقصى"، فضلاً عن فشلها في الحرب على غزّة، أمام حقيقة مرّة، لا
عهد لها بها من قبل، ونعني بذلك ظاهرة الهجرة العكسية بالإكراه، وشيوع حالات الفرار
الفردي كلما احتدّت الأزمة وتفاقم أثرها التراكمي، ولا سيما من الشرائح الاجتماعية
العليا، والمهنيين والمستثمرين وذوي الجنسيات المزدوجة، وغيرهم من الأوغاد، وقد تستفحل
الظاهرة عندما تتخلخل أعمدة البيت المصطنع
أكثر، ويشتدّ القلق الوجودي، وتتعمّق الأسئلة عن المصير النهائي.
في المقابل، ورغم جدّية المخاطر المحيطة
بالواقع الفلسطيني، لن يتمكّن الاحتلال مهما ارتكب من مجازر وحشية، وبالغ في المقتلة
الجارية، من تحقيق هدفه المتعلق بإحداث نكبة فلسطينية جديدة، فقد تغيّر الواقع الذاتي
والموضوعي لشعبٍ تمرّس في الصمود والمقاومة، وأبلى أحسن البلاء في الدفاع عن نفسه وعن
حقوقه، وأجاد تماماً المهمة في إفشال مخطّطات عدوّه، وليس هناك من دليل إثبات ساطع
سطوع الشمس، أعظم من هذا الذي يقدّمه بكفاءة واقتدار قطاع غزّة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".