عن فوضى المشهد الانتخابي التركي
كانون الثاني 13, 2023

محمود علوش

تقترب تركيا من أهم انتخابات رئاسية وبرلمانية ستُجرى في التاريخ الحديث للجمهورية. لا تكمن أهميتها في أنها ستُحدّد فحسب ما إذا كان حكم حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان، سيستمر لولاية جديدة، بل الأهم أنها ستُقرّر ما إذا كانت البلاد ستُعيد تشكيل هويتها الداخلية والخارجية، بعيداً عن الإرث الهائل الذي أحدثه أردوغان على مدار عقدين في كل النواحي، من السياسة الداخلية التي أعادت الاعتبار للهوية المحافظة للدولة والمجتمع، على حساب الهوية العلمانية، إلى السياسة الخارجية التي جعلت تركيا دولة مؤثرة في محيطيها، الإقليمي والدولي، مروراً بالأمن والاقتصاد. بالنظر إلى الأهمية الاستثنائية لهذه الانتخابات، يبدو الاستقطاب الداخلي المتصاعد استجابة طبيعية، لكنّه يأخذ، بشكل متزايد، طابعاً حادّاً يميل إلى ما يُشبه الفوضى الانتخابية. على الرغم من أنه لم يتبقّ سوى أقل من خمسة أشهر على الانتخابات على أبعد تقدير، إلآّ أن موعدها لم يُحسم بعد، ولا تحظى رغبة أردوغان بتقديمه قليلاً عن الموعد المقرّر مسبقاً في منتصف يونيو/ حزيران المقبل بإجماع داخلي. كما أن طرح تبكير الانتخابات يُغذّي الاستقطاب الداخلي. مع ذلك، ليس التأخير في حسم الموعد، الذي يعمل على إرباك المشهد الانتخابي، السبب الوحيد للفوضى.

أدّت إدانة رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بتهمة إهانة الدولة إلى إثارة احتمال استبعاده من السباق الرئاسي، فيما لو قرّر الترشّح، بينما يُنظر، على نطاق واسع داخل المعارضة، على أن أردوغان يستخدم القضاء لحرمان إمام أوغلو من المنافسة الرئاسية. كما تنظر المحكمة الدستورية العليا في دعوى لإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) تُهدّد بحرمانه من خوض الانتخابات. في غضون ذلك، زاد إعلان الحزب اعتزامه تقديم مرشّحه عنه للانتخابات الرئاسية من حالة الإرباك، سيما داخل تحالف المعارضة الذي يسعى إلى استمالة الأصوات الكردية. على الرغم من أن فرص الحزب في فوز مرشّحه المحتمل للرئاسة محدودة للغاية، إن لم تكن مستحيلة، إلآّ أن التموضع الذي سيتخذه في المنافسة الانتخابية سيكون حاسماً في ترجيح الكفّة لأحد التكتلين الرئيسيين المتمثلين في تحالف الجمهوري الذي يضم "العدالة والتنمية" والحركة القومية، وفي تحالف الأمة الذي يجمع ست أحزاب معارضة. بالنظر إلى أن لدى الحزب الكردي قاعدة انتخابية تتراوح من 10% إلى 13% من مجمل الأصوات، فإن ذلك يجعله صانع الملوك في هذه الانتخابات. تُجمع استطلاعات الرأي على تقارب نسب التصويت بين تحالفي الجمهور والأمة، ما يجعل من الصعّب على أي منهما الفوز بأكثر من 50% من الأصوات المطلوبة للفوز بالرئاسة في الجولة الأولى، من دون الظفر بغالبية الأصوات الكردية.

مع أن قرار حزب الشعوب الديمقراطي تقديم مرشّحه الخاص ليس نهائياً، إلاّ أن الهدف منه تقوية موقفه في لعبة المساومة السياسية التي يسعى إليها لإجبار التكتلين الرئيسيين على الاعتراف بوجوده، وتحقيق مطالبه المرتبطة بالحالة الكردية مقابل دعم أحدهما. على اعتبار أن السياسات المتشدّدة التي اتخذها أردوغان ضد حزب الشعوب الديمقراطي وضد الحالة الكردية الانفصالية في سورية تٌقلص من فرص حدوث تعاون انتخابي بين أردوغان والحزب، فإن الأخير يُركّز في لعبة المساومة على المعارضة. مع ذلك، يشتكي الحزب من أن تحالف المعارضة يُبدي تردّداً في الانفتاح عليه بسبب مخاوفه من ارتدادات هذا الانتفاح على قاعدته الانتخابية، وتأثير حزب الخير القومي على توجهات المعارضة في المسألة الكردية. تعمل الحاجة إلى الصوت الكردي إلى زيادة الضغط على تحالف المعارضة، بينما لا يزال يُعاني من أزمة التوافق على مرشّح رئاسي مشترك لمنافسة أردوغان. وعلى الرغم من أن النقاشات المستمرّة داخل المعارضة بخصوص المرشّح قد تؤدّي إلى التغلب على هذه الأزمة، إلآّ أنها مرتبطة بجملة من التعقيدات. فمن جانب، أدّى إصرار زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كلجدار أوغلو، على الترشح للرئاسة إلى تقليص خيارات أحزاب المعارضة الأخرى التي ترغب في ترشيخ شخصيةٍ أخرى لديها حظوط أكبر في التغلب على أردوغان.

ومن جانب آخر، يضغط التأخير في تحديد موعد الانتخابات على المعارضة التي ستجد نفسها أمام مُعضلة التحضير الجيد للانتخابات، فيما لو جرى تقديم موعدها. في أية حال، لن يساهم التوافق المرجّح داخل المعارضة، في نهاية المطاف، على مرشح رئاسي، بالضرورة، في تعظيم فرصها بالفوز. سيبدو خيار ترشيح كلجدار أوغلو مناسباً لأردوغان بشكلٍ أكبر، كون فرص كلجدار أوغلو، المعروف بميوله العلمانية الشديدة، في الوصول إلى الأصوات المحافظة التي لم تعد تؤيد أردوغان ضعيفة. علاوة على ذلك، أثار زعيم حزب المستقبل، أحمد داود أوغلو، جدلاً جديداً بشأن صلاحيات قادة أحزاب المعارضة في التأثير على قرارات المرشّح الرئاسي المشترك في حال فوزه، حيث اقترح صلاحية لقادة التحالف السداسي بالموافقة أولاً على أي قرار استراتيجي سيصدر من الرئيس في القضايا الاستراتيجية. في الوقت الذي يكافح فيه قادة المعارضة لإظهار الوحدة، فإنهم عاجزون عن تقديم رؤيةٍ واضحةٍ لإدارة البلاد بشكلٍ مستقر، فيما لو وصلت المعارضة إلى السلطة. كتحالف يمتلك فرصاً جادة للفوز في الانتخابات، فإنه يحتاج، قبل كل شيء، إلى تقديم نفسه للشعب التركي أنّه قادر، بالفعل، على إحداث استقرار سياسي في البلاد بدون أردوغان. لا تُشير خلافات المعارضة بشأن المرشّح المشترك وطبيعة صلاحياته إلى أن المعارضة قادرة بالفعل على إدارة السلطة بطريقة أفضل مما تفعلها الآن. كما تزيد من الشكوك بشأن كفاءتها في إدارة بلدٍ تسعى لإعادة تغيير نظامه الرئاسي إلى برلماني، وتواجه تحدّيات اقتصادية كبيرة وصعوبة هائلة في إدارة سياسته الخارجية.

تتجسّد الفوضى الانتخابية بشكل أكبر في دخول الحجاب المعركة الانتخابية، مع مطالبة أردوغان بإدراج مسألة حق الحجاب في الدستور التركي، وهو ما يطرح أيضاً احتمال إجراء استفتاء شعبي لتعديل الدستور في خضم المنافسة الانتخابية. في حين أن جميع القضايا المثارة مع اقتراب الانتخابات مُصمّمة أساساً لخدمة المنافسة الانتخابية بين أردوغان والمعارضة، إلا أن تصدّرها المشهد السياسي دفعة واحدة يُخرج الاستحقاق الاستثنائي عن مساره الطبيعي. تخدم هذه الفوضى الانتخابية، التي يتوقع أن تزداد في الفترة المتبقية للانتخابات، أردوغان بشكل أكبر مما تخدم المعارضة، رغم أنّها لا تخلو من بعض المخاطر. أخيراً، بقدر ما أن نتيجة هذه الفوضى ستلعب دوراً حاسماً في تحديد ما ستفرزه صناديق الاقتراع، فإنها لن تُضعف الدور الأكبر للوضع الاقتصادي في رسم المشهد السياسي التركي بعد الانتخابات. وقد ساهمت القرارات الاقتصادية التي اتخذها أردوغان، كزيادة الرواتب ورفع الحدّ الأدنى للأجور واستقرار سعر صرف الليرة أمام الدولار، في تحسين فرصه الانتخابية، لكنّ التحدّي الأكبر أمامه يكمن في الحفاظ على البيئة الاقتصادية المستقرّة حتى إجراء الانتخابات. يبدو أن أحد دوافع رغبة أردوغان في تقديم موعد الانتخابات هو الاستفادة بشكل أكبر من التأثير الإيجابي لهذه القرارات، قبل أن يبدأ مفعولها بالتراجع المحتمل كلما تأخّر موعد الانتخابات.

المصدر: العربي الجديد.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".