د. وائل نجم
خلال الأيام الأخيرة انبرى عدد من نوّاب بيروت وأثاروا حديثاً عن عسكرة
العاصمة وأخذوا يحذّرون من ذلك كما لو أنّ جحافل من الجيوش والعسكر باتوا على كلّ
مفترق أو زاروب حيّ من أحيائها، وجاء إثارة هذا الموضوع على خلفية قيام الجماعة
الإسلامية بتشييع أحد شهدائها الذين ارتقوا في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في
الجنوب دفاعاً عن كلّ لبنان، ونصرة للشعب الفلسطيني الذي يتعرّض منذ أكثر من خمسة
أشهر لأبشع أنواع المجازر والمذابح المستمرّة والتي سكت عنها أو عجز عن وقفها كلّ العالم.
وقد ظهر خلال التشييع بضعة شبّان من "إخوان" الشهداء يرتدون زيّاً
موحّداً شبه عسكري، إذ ليس في لبنان أيّ زيّ عسكري سوى ذاك الذي يرتديه جنود الجيش
اللبناني وعناصر قوى الأمن الداخلي والأجهزة الأمنية الرسمية الأخرى، وما سوى ذلك
أيّاً يكن لا يُعدّ عسكرياً، وهؤلاء الشبّان كانوا مكلّفين حصراً بحمل جثمان أحد
الشهداء كتعبير رمزي يعبّر عن الوفاء تلجأ له كل المؤسسات. كما ظهرت خلال التشييع
ثلاث بنادق حربية إحداها تعود للشهيد ذاته، والأخريان ترمزان إلى أخويه الشهيدين
اللذين ارتقيا معه. وحصل أيضاَ أثناء إخراج الجثمان من مسجد الإمام علي في الطريق
الجديدة إطلاق نار من بندقية حربية (عدد مخزنان) من شخص كان يقف خلف المسجد ثم لاذ
بالفرار مع شخص آخر كان ينتظره على دراجة نارية عندما حاول عناصر الانضباط
المكلّفين ضبط الوضع الميداني ضبْطه وتوقيفه. كما حصل إطلاق نار من مسدسات فردية
بواسطة أفراد كان بعضهم يفد من الطرقات الفرعية لخط سير الجنازة، وقد عمل عناصر
الانضباط جهدهم لمنع ذلك ووقفه.
كلّ ذلك يعني أنّ القرار الرسمي برفض الظهور المسلّح، ورفض إطلاق النار،
والاكتفاء بمظهر يعكس نوعاً من الوفاء لدماء الشهداء، ولا ننسى أنّهم ارتقوا خلال
مواجهة بطولية مع العدو الإسرائيلي، ولكن مع ذلك أثير الحديث عن عسكرة العاصمة
والمظاهر المسلحّة فيها. وهنا لا بدّ من التذكير أنّ إطلاق النار عادة سيئة
والكثير من القوى والشخصيات يرفضها، والجماعة إحدى هذه القوى، وقد شيّعت شهيديها
الآخرين في بلدتي شحيم في إقليم الخروب، والهبارية في العرقوب على بعد أمار قليلة
من مكان استشهاد الشهداء، ومع ذلك لم تُطلق أيّة رصاصة خلال التشييع، وبالتالي
فإنّ ذلك يؤكّد أنّ مطلقي النار في التشييع في بيروت ليسوا من أفرادها وعناصرها.
ثمّ إنّ هذه العادة السيئة (إطلاق النار في المناسبات) وقع أو يقع فيها
الكثير من الناس من غير إرادة منهم، وقد انتشر فيديو لأحد النوّاب الذين صرّحوا
برفض ما حصل، وهو مرفوع على الاكتاف في إحدى البلدات وقد ملأ إطلاق النار سماء
المنطقة في حينه، ومع ذلك لم يتحدث أحد عن عسكرة وتسلّح.
ثمّ إنّ الجماعة الإسلامية من
القوى التي لا يخلوا بيان لها من التأكّيد والتشديد على ضرورة قيام الدولة وأخذ
مؤسساتها دورها بشكل كامل وطبيعي، وعلى دعم الأجهزة العسكرية والأمنية الرسمية، بل
وكانت من أوائل القوى التي طالبت واقترحت استراتيجية دفاعية تكون الدولة مرجعيتها،
وتستفيد من خبرة كل القوى التي شاركت في مقاومة العدو الإسرائيلي، وأكثر من ذلك
أكّدت مراراً وتكراراً أيضاً على رفضها لأي استخدام للسلاح في الداخل اللبناني،
وأنّه ليس لها خصومة أو عداوة في الداخل، بل العدو الوحيد هو العدو الإسرائيلي
الذي ما يزال يحتلّ قسماً من الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بل
مدّت يدها للحوار مع مختلف القوى اللبنانية سواء اتفقت معها أو اختلفت، وهي حافظت
طيلة فترة الانقسام اللبناني على علاقات طيّبة مع طرفي الانقسام حتى أدّت دور
الوسيط في بعض الفترات التي لا يعلم كثير من الناس عنها.
أمّا لماذا إثارة هذا الحديث في هذه المرحلة فهو محل استهجان واستغراب؟! هل
يجهل مطلقوه حقيقة الجماعة؟ هل يعرفون وسطيتها وانفتاحها واعتدالها وإيمانها
بالدولة؟ هل يدركون أنّ وسطية الجماعة وحكمتها حفظت البيئة الإسلامية من الانزلاق
نحو التطرّف الذي تحدّث عنه البعض؟ هل يعرف أولئك أنّ الجماعة نظّمت في العام 2007
مؤتمراً علمائياً واسعاً أصدر وثيقة رفضت التطرّف وأكّدت على الوسطية والاعتدال
والتعاون بين كلّ مكوّنات الوطن؟! هل يعلم أولئك أنّ الجماعة شكّلت ضمانة للبنان
من الانزلاق نحو الفتنة عندما كان البعض ينفخ في بوقها؟
إذا أردنا أن نحسن الظنّ فإنّ أولئك لا يعرفون هذه الحقائق؛ إمّا إذا أراد
المرء أن يسيء الظنّ فإنّ المسألة تكون أكبر من ذلك وأخطر، وربما تقع في خانة
الخوف والقلق من تكامل جهود القوى التي ترفض المذابح التي تحصل للشعب الفلسطيني،
وهو أمر ترفضه البيئة الإسلامية السنّية التي رضعت حبّ الأقصى مع حليب الأمهات.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز"