عمر
كوش
من الممكن اعتبار الاتفاق السعودي الإيراني،
الذي وقّع برعاية صينية، بداية ذوبان جليد تراكم في السنوات الماضية في علاقات البلدين،
بوصفه خطوة في اتجاه إنهاء القطيعة الديبلوماسية، والسير في طريق تطبيع تدريجي بينهما،
لكنه لن يؤدّي إلى اختراق كبير وسريع، يصل إلى حدّ تجاوز الخلافات السياسية والأمنية
الكثيرة بينهما، سواء على الصعيد الثنائي، أو على صعيد أدوار كل منهما في ملفات المنطقة
الساخنة التي تطاول الأوضاع في اليمن ولبنان والبحرين وسورية والعراق.
دفعت أسباب وعوامل عديدة الدولتين إلى
توقيع الاتفاق، وهذا لا يقلل من دور الصين اللافت في التوصل إليه، حيث إن ما رشح من
نصه يشير إلى تغليب القضايا الأمنية على سواها، من خلال التأكيد على سعيها نحو وقف
التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وتعزيز السلم والأمن الإقليميين والدوليين، وتفعيل
الاتفاقية الأمنية بين البلدين الموقعة في إبريل/ نيسان 2001، إضافة إلى الإعلان عن
استعادة السفراء والقناصل والممثليات، خلال شهرين، وإعادة الاتفاقية العامة للتعاون
في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب،
الموقعة في 1998.
جاء الاتفاق بعد مرونة أبداها الجانبان، ربما من
باب البراغماتية السياسية، خصوصاً أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، سبق وأن أعرب
عن أمله في أن "تؤدّي المحادثات مع إيران إلى نتائج ملموسة لبناء الثقة وإحياء
العلاقات الثنائية"، إلا أن بناء الثقة وإحياء العلاقات يحتاج إلى الكثير من أجل
حلّ خلافات تراكمت عدة عقود. ومع ذلك، تقف حسابات المصالح المتبادلة وراء علاقات الأنظمة
والدول، وتتحكّم في أدوارها على المستويين، الإقليمي والدولي، حيث يريد الساسة في كل
من السعودية وإيران إعادة رسم خريطة تموضع بلديهما، بما يضمن تحقيق مصالحهما الجيوستراتيجية،
حتى لو استدعى الأمر عقد صفقاتٍ بينهما، والمساومة على ملفات تستنزفهما، خصوصاً على
المستويين، الأمني والاقتصادي، حيث إن دوافع القادة في السعودية لا تبتعد عن أولوية
حساباتهم الأمنية، وذلك بعد اقتناعهم بعدم جدوى المراهنة على الإدارات الأميركية، خصوصاً،
الديمقراطية، في توفير الحماية لأمن بلادهم الوطني، لأنها باتت غير مهتمة بحماية حلفائها
في المنطقة، وظهر ذلك جلياً حين تعرّضت منشأتان رئيسيتان تديرهما شركة أرامكو السعودية
إلى هجوم بمسيّرات، أدى إلى توقف ما يعادل نصف إنتاج السعودية من النفط تقريباً في
عام 2019.
الواقع أن ساسة الولايات المتحدة وحلفاءها
الغربيين لم يتّخذوا، منذ بدء مفاوضات التوصل إلى الاتفاق حول الملف النووي الإيراني
الذي وُقع عام 2015، أي موقفٍ حاسمٍ لردع التغلغل الإيراني في بلدان المنطقة، وخصوصاً
في اليمن، لذا لجأ ساسة السعودية إلى فتح قنوات التهدئة والحوار مع النظام الإيراني،
بعدما بات من المستحيل حسم الوضع في اليمن عسكرياً، الأمر الذي يعني ضرورة البحث عن
حلٍّ سياسي فيه، اعتماداً على فتح قنوات حوار مباشر مع ساسة النظام الإيراني الذين
استجابوا لوساطة ساسة عراقيين وعُمانيين، تكلّلت بوساطة ساسة صينيين، نجحوا للمرّة
الأولى في التوصل إلى حل أزمة إقليمية، يشكّل انعكاسها على الوضع في اليمن أساس نجاحها،
من جهة التوصل إلى تسوية في اليمن تُرضي الطرفين الإيراني والسعودي، وترضي الأطراف
المتصارعة داخلياً.
أما في الجانب الإيراني، فثمّة دوافع وحيثيات عديدة
وراء استجابتهم للوساطة الصينية، لعل أهمها سعي ساسة النظام إلى فكّ العزلة الدولية
المرهقة، ولديهم مصلحة كبيرة في تعزيز علاقات بلادهم مع محيطها الإقليمي، خصوصاً في
الجانب التجاري، حيث إن السعودية صاحبة أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، وتحسين العلاقات
التجارية معها يدعم الاقتصاد الإيراني المنهك بالأزمات، والمثقل بالعقوبات الأميركية.
كما أن تفضيل الوساطة الصينية يصبّ في صالح حليفة إيران الطبيعية، ويأتي في وقت تشتدّ
فيه حاجتها إلى تمتين علاقاتها مع كل من الصين وروسيا، وبما يزعج الولايات المتحدة،
كون الاتفاق يُظهر أن حليفها السعودي بات يعمل على ما يخدم مصالحه، ويبتعد أكثر فأكثر
عنها، وعن الأوروبيين، لصالح المحور الصيني الروسي الإيراني المعادي.
تبدو الخطوة السعودية متناقضة مع ما
حاول الرئيس بايدن تسويقه في زيارته الرياض في يوليو/ تموز 2022، والمتمثل في فكرة
إنشاء تحالف أمني عربي إسرائيلي، التي كانت تقتضي تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل،
وبالتالي، تبدو الخطوة كأنها اعتراض على الفكرة الأميركية، لكنها متوقّعة في السياق
السياسي للتغيرات التي طاولت العلاقات الأميركية السعودية، خصوصاً مجيء إدارة بايدن
التي انتقدت كثيراً الأوضاع في المملكة، وتوجهات وممارسات قيادتها السياسية. واللافت
أن الناطق باسم البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي، جون كيربي، اعتبر أن الاتفاق
"يصبّ في مصالحنا، وهو أمرٌ عملنا عليه من خلال المزج الفعّال من الردع والدبلوماسية"،
حيث يثير الاستغراب استخدامه كلمة "ردع" في كلامه.
يراهن
مراقبون ومحللون على انعكاس التفاهم السعودي الإيراني على حلحلة الملفات الساخنة في
المنطقة، بما يفضي إلى إنهاء الصراعات في كل من اليمن ولبنان وسورية والعراق وسواها
في المنطقة، لكنهم يحمّلونه أكثر مما يحتمل، لأن من الصعب حلّ كل إشكالات المنطقة بناء
عليه، إضافة إلى الإشكالات التاريخية بين السعودية وإيران، فضلاً عن أنه يقوم على معادلة
تتضمّن مجاهيل عديدة، ويتعيّن على الجانبين حساب التكلفة، ولا يمكن الجزم بإمكانية
تحقيق الطرفين منه، أو بإمكانية إحداث تحوّل كبير في استراتيجية السعودية وسياساتها
أو إيران.
المصدر:
العربي الجديد.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".