محمود الريماوي
تفصلنا تسعة
أيام عن بدء هدنة مرجّحة في قطاع غزّة يتم فيها وقف إطلاق للنار ستة أسابيع، ويتم خلالها
البدء بتبادل الأسرى مع الاحتلال الإسرائيلي. تُبدي واشنطن حماسة ملحوظة، ويقول البيت
الأبيض إنه يعمل على مدار الساعة لإبرام الصفقة، وأن إطلاق المحتجزين الإسرائيليين،
وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية في مقدّمة الأولويات. يأتي الاتفاق المزمع ثمرة جهد
أميركي مصري قطري، ويجيء، في صيغته الجديدة، تفاعلا مع ردّ مجلس الحرب الإسرائيلي وردّ
حركة حماس، وتحمل الصيغة الجديدة تراجعاً عن صيغة تفاهمات باريس ذات المراحل الثلاث،
إذ يتطلب الأمر هذه المرّة تفاوضاً على كل مرحلة لاحقة، إلا أن الحاجة الحيوية إلى
وقف إطلاق النار ولو مؤقّتا، دفعت الأطراف جميعها، وبالذات الطرف الفلسطيني ــ العربي،
لتقديم تنازلات من أجل عبور مرحلة جديدة تتسم بالتهدئة والتقاط الأنفاس، علماً أن الإسرائيليين
يحتاجونها بصورة أكيدة لوقف مسلسل "الأثمان الباهظة" كما يسمّيها وزير الحرب
يوآف غالانت، الذي يعمل على تتويج مسيرته المهنية بربط اسمه بـ"مجد" تهديم
قطاع غزّة وبحرب إبادة علنية وغير مسبوقة في تاريخ الصراع ضمن وقت قصير، إذ لم يتوقّف
مسلسل الإبادة المعنوية والمادية لشعب فلسطين منذ نشوء الدولة الإسرائيلية على أرض
هذا الشعب قبل نحو 76 عاماً، والمختلف هذه المرّة كثافة حملة الإبادة ووحشيّتها ذات
الطبيعة الإرهابية الصريحة.
تفادياً للاستطراد،
بينما تتجه الأنظار إلى حلول شهر رمضان المبارك في الحادي عشر من مارس/ آذار الجاري
وتوقيع الاتفاق، فإن هذه الفترة المتبقية لن تكون قصيرة على أبناء القطاع، فقادة الحرب
في تل أبيب سوف يواظبون، في الأثناء، على قصف البيوت في وسط قطاع غزّة وجنوبها وإخراج
المستشفيات الأخيرة من الخدمة، مع تشديد حرب التجويع على الشمال، إذ لم تصل أيّ مساعداتٍ
إلى تلك المناطق، ومن أهمها جباليا المدمرة، منذ أسابيع. ولم يتبق للمواطنين هناك علفٌ
كي يطحنونه ويجعلونه طعاما لهم، ومع الجوع هناك العطش مع افتقاد مصادر المياه، إذ قصف
الاحتلال الآبار.
لطالما أعلنت
واشنطن، وخلال جولات الوزير أنتوني بلينكن على المنطقة، أنها تعمل على تسهيل دخول المساعدات،
والحصيلة كانت تناقص دخول هذه المساعدات، فيا لها من براعة دبلوماسية متكرّرة لم تقترن
بأي احتجاج جدّي ذي مغزى على هذا التقليص المنهجي والمتعمّد، والذي يجهر به مسؤولو
الأمم المتحدة ووكالة الغوث بصورة شبه يومية. ومع ذلك، يعلن البيت الأبيض، مجدّداً
وبصورة مملّة، عن التسهيل المزعوم والمرغوب، فإن واشنطن، فوق ذلك، لا تضع حماية المدنيين
في مقدّمة اهتمامها، كما ورد في إفصاح البيت الأبيض يوم الأربعاء الماضي، إذ تعتبر
سقوط آلاف الضحايا من الأطفال والنساء مجرّد خسائر جانبية و"متوقّعة" للحرب.
وسوف يعمل
مجلس الحرب في تل أبيب على استثمار الأيام التسعة حتى بداية رمضان لتكثيف حملته، من
أجل إيقاع أكبر عدد إضافي من الضحايا، وهذا هدفٌ قائمٌ بذاته وعزيزٌ على قلوب أعضاء
حكومة أقصى اليمين الفاشي، وعلى أمل أن يحقق هذا التكثيف في التوحّش ضغطاً إضافياً
على حركة حماس كي تقدّم مزيداً من التنازلات ذات الصلة بما سمّيت التفاصيل العالقة.
هذا مع عدم استبعاد أن يؤدّي القصف بصورة متعّمدة أو عرضية إلى قتل مزيد من المحتجزين
من أجل تقليص عدد الأسرى الفلسطينيين عند حصول التبادل
أمام ذلك،
ترتدي حملة الإنزالات الجوية التي أطلق الأردن مبادرتها، وتبعتها في ذلك. مصر، أهمية
خاصة، وقد زادت هذه الأهمية مع مشاركة أطراف عربية وغربية: مصر وقطر والإمارات ثم البحرين
وعُمان، وبريطانيا وفرنسا. وكان لافتاً ومثيراً للاهتمام أن الملك عبد الله الثاني
قد شارك بنفسه مرّتين في عمليات الإنزال هذه، وهي مبادرة رفيعة وذات رمزية عالية من
قائدٍ عربيٍّ ترتبط بلاده بأوثق الروابط مع فلسطين وشعبها وأرضها، غير أن سلطات الاحتلال
لا تفوّت الفرصة أمام تنغيص حياة أبناء قطاع غزّة، إذ شملت الإنزالات مناطق على ساحل
البحر في الجنوب والوسط، وحيل، كما يبدو، دون وصولها إلى الشمال الأشدّ حاجةً إلى وصول
المساعدات إليه، حتى صباح امس الجمعة، اذ شهد الشمال ثلاثة إنزالات جوية أردنية.
ولمواجهة حرب
الإفناء التي يشنّها مجلس الحرب الإسرائيلي، هناك حاجةٌ لتكثيف الضغوط العربية والغربية
من أجل عدم الاعتراض على وصول المساعدات والإنزالات إلى الشمال. إلى جانب طرح إيصال
المساعدات برّاً من المعبر المتاح إلى غزّة، والذي يجب أن تدخله شاحنات أردنية ــ دولية،
علماً أن المسافة بين جسر الملك حسين على نهر الأردن وغزّة لا تزيد برّاً عبر مدينة
الخليل عن مائة كيلومتر، إضافة الى فرصة لعبور شاحنات أردنية من النقطة الحدودية على
جسر الشيخ حسين في الأغوار الشمالية الأردنية.
تكثيف المساعدات
إلى شمال القطاع، وإدانة حرب التقتيل اليومية ضد المدنيين في البيوت وفي الشوارع والدعوة
إلى وقفها منذ الآن هما العنوان السياسي الصالح للجهود المطلوبة من أجل لجم الشهوة
الإسرائيلية المسعورة للولوغ في دماء مزيدٍ من المدنيين. وهو ما يستحقّ مخاطبة البيت
الأبيض به، إذ إن هدف الإفراج عن المحتجزين لدى "حماس" يجب أن لا يقترن السعي
إليه بالفتك بمزيدٍ من المدنيين، فحياة هؤلاء مساويةٌ لحياة المحتجزين. وعلى الرئيس
بايدن، بعدما أدرك بنفسه انحسار تأييد ترشيحه داخل صفوف الحزب الديمقراطي من المسلمين
ومن أصحاب الأصول العربية، أن يستخلص الدرس بغير تأخير إضافي، ويدين بصورة حاسمة الاستهداف
المنهجي للمدنيين والدعوة إلى وقفه فوراً، لا أن يطلب "التقليل من عدد الضحايا"،
وهي عبارة يفهمها مجلس الحرب ترخيصاً بمداومة هذا الاستهداف مع المناورة في حجم عدد
المستهدفين. وخلال ذلك، لا بد من إجراءات سياسية عربية، ولو أولية، مثلا ضد منظمّات
المستوطنين ورموزهم بتصنيفهم إرهابيين، فالعالم كله يرى بأم العين إرهاب هؤلاء في الضفة
الغربية المحتلة، وآن لهؤلاء أن يدفعوا ثمناً سياسياً عادلاً من الدول العربية السائرة
في نهج السلام مع تل أبيب، فالسلام لا يتسق مع الغزو الاستيطاني، ولا مع التوحّش الذي
يبديه هؤلاء، على ما ورد في تصريحات لوزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، علما أن المطلوب
اتخاذ إجراءات تدعم التعليقات الصائبة والمُحقة، ذلك أن جلود المتوحّشين سميكة أمام
التعليقات السياسية، لكن هؤلاء يصبحون ذوي حسٍّ مرهفٍ حين يتم اتخاذ إجراءات سياسية
ملموسة ضدهم.
هذا مع الأخذ
في الاعتبار أن سلطات الاحتلال لن تفوّت فرصة تسميم حياة أبناء الضفة الغربية خلال
شهر رمضان، حتى لو تم سحب صلاحية إيتمار بن غفير حيال المسجد الأقصى، فهناك لدى فروع
المؤسّسات الأمنية من يشايعون هذا الوزير العنصري في أفكاره ويسلكون مسلكه، وحيث ينتقل
الاستهداف من غزّة (من دون أن يتوقف فيها بصورة كاملة) إلى القدس ومقدّساتها. فأقصى
اليمين الحاكم مصمّم، وأمام تعاظم اهتمام شعوب العالم بالعدالة في أرض فلسطين المقدّسة،
على تصفية القضية في هذه المرحلة بكل صنوف الوحشية العسكرية والوقاحة السياسية، ما
لم تتّخذ إجراءات ملموسة ضدّه، والإجراءات وحدها هي الكفيلة بإيقاف الهستيريا العنصرية
التي تجتاح قطاعاً واسعاً من المجتمع الإسرائيلي، كما أذرع مؤسّسات الاحتلال الأمنية.
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".