لعبة الدولار والمصارف: الخديعة- جزءٌ ثانٍ
شباط 18, 2023

طوني عيسى

تتضارب التحليلات حول ما يجري في مسألتي صعود الدولار وإقفال المصارف. ومن الواضح أنّ كميات هائلة من الرماد يتمُّ ذرُّها في العيون لئلا يستطيع الناس رؤية الأشياء على حقيقتها.

ليس جديداً أن يرتفع سعر الدولار في السوق السوداء. فهو على هذا المنوال منذ 17 تشرين الأول 2019. ولا تكمن المشكلة تحديداً في نسبة الارتفاع غير المسبوقة خلال أيام قليلة.

الجديد هو طريقة تعاطي المعنيين مع هذه المسألة، من مصرف لبنان والمصارف التجارية إلى الحكومة والمجلس النيابي وقوى السلطة عموماً. فللمرة الأولى، لا يبدي هؤلاء أي اهتمام بالأمر، وهناك معلومات مفادها أنّ هؤلاء يتقصَّدون الإهمال. فما الذي يفعلونه؟

ثمة تفسيرات عديدة يجري تداولها:

1- هناك من يقول إنّ أهل السلطة وصلوا إلى العجز في مسألة انهيار الليرة. فمصرف لبنان أنفق كل ما يستطيعه لضبط الارتفاع على مدى سنوات. وطار جزء كبير من أموال المودعين، وتمّ استهلاك بعض المساعدات والقروض التي توافرت للبنان خلال هذه الفترة، ومنها المبلغ الذي حصل عليه من حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي. ووفق هذا التفسير، المركزي "رَفَع العشرة"، وقرَّر ترك اللعبة على غاربها، وليتحمّل المسؤولية من يتحمَّلها.

ويقول أصحاب هذا التفسير، إنّ المصارف التي تمّ استخدامها كصناديق لتمويل حيتان المال والسلطة، استنفدت اليوم كل محاولات النجاة، واستشعرت الهجمة الدولية العنيفة عليها، أقفلت أبوابها لعلَّها تنجو برأسها فلا تذهب كبش محرقة.

2- هناك تفسير سياسي يرفعه فريق "حزب الله" الذي يتّهم الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية بافتعال الأزمة الحالية، أي رفع سعر الدولار وإقفال المصارف كورقة ضغط، تنفيذاً لمخطط إضعاف "الحزب" والسلطة التي هو جزء منها.

3- هناك تفسير معاكس يرفعه خصوم "الحزب"، ومفاده أنّه هو الذي يتحمّل المسؤولية عن انهيار الدولة، وهو المستفيد الوحيد من هذا الانهيار، لأنّه الوحيد الذي لم يتأثر سلباً بالأزمة، وهو الأقوى بالمال والسلاح والنفوذ السياسي. وهو يتأهّب لاستخدام أوراق القوة التي يمتلكها من أجل إعادة تأسيس البلد وفق التوازنات التي تناسبه. ففي التسويات، يتمّ تجيير الموارد والطاقات للأقوى. ولذلك، لن يستقيم الوضع السياسي إلاّ بتكريس حصّة وازنة لـ"الحزب" في السلطة، ولن ينهض القطاع المصرفي إلّا إذا تمكَّن "الحزب" من اقتطاع حصة وافية في تركيبته.

هذه التفسيرات الثلاثة، من تقنية وسياسية، ليست بعيدة عن الواقع. فالصراع بات شديد التعقيد، وعناصره متداخلة من خارجية وداخلية. وعلى رغم التباينات بين هذه التفسيرات، فإنّها تتقاطع حول حتميات معينة، أبرزها:

1- انهيار الليرة لا قعر له.

2- القطاع المصرفي وصل إلى استحقاق حاسم، ومصير الودائع بات أكثر ضبابية.

3- الانهيار يُستخدم سياسياً لضرب النظام الذي يقوم عليه البلد، وإنتاج آخر يُثبِّت توازنات جديدة.

4- سقوط المؤسسات، الواحدة تلو الأخرى، سيتواصل خدمةً للسقوط الكبير الذي يبدو أنّ جهات متضاربة تعمل له وتريد أن تستفيد منه، في الاتجاهين: سواء بهدف انتزاع البلد من يد "حزب الله" أو على العكس بهدف تكريس نفوذه.

ما يجري اليوم يبدو في الواقع رصاصة الرحمة على ما بقي من الهيكل اللبناني الذي يبدو أنّه متجّه إلى السقوط الكامل: فـ"حزب الله" يريد كسر المحاولات الرامية إلى انتزاع البلد من يديه، وهو يبني التحصينات التي توفّر له الحماية. وخصوم "الحزب" يسعون إلى إلحاق الهزيمة بـ"الحزب"، ولو أدّى ذلك إلى انهيار كل شيء في البلد.

في هذا الخضم، أركان المال والسلطة يريدون النجاة بالتجاوزات التي ارتكبوها. وهم يستغلون الظرف السياسي لتحقيق مكاسبهم الخاصة. وعلى الأرجح، هم مستعدون لخدمة أي طرف سياسي، داخلي أو خارجي، شرط أن يساعدهم في تحقيق أهدافهم.

وفي تقدير هؤلاء، أنّ الفرصة مؤاتية لتكرار سيناريو 17 تشرين الأول 2019، عندما تمَّ إغلاق المصارف "على المجهول" وأطلق العنان للدولار. وفي الظلّ، جرى إطلاق يد منظومةٍ تمّ اختيارها بعناية، تحظى بالحمايات السياسية كافة، وقوامها صرّافون ومصرفيون وتجّار شرعيون وغير شرعيين، تساوم المودعين على ودائعهم فتشتريها بأبخس الأثمان.

على مدى أكثر من 3 سنوات، تخلّصت المصارف من قسم كبير من ودائع الناس العاديين، باستخدام لعبة الدولار وبيع الشيكات وتعاميم مصرف لبنان، ما فتح الأبواب للمهرّبين وبعض التجار كي يسطوا على الودائع بطرق غير مباشرة.

اليوم، تدخل الدولة اللبنانية في مرحلة انهيار يعتقد البعض أنّها الأخيرة. وخلالها، يدور صراع قاتل: مَن سيبقى ومَن سيموت؟ وعلى الأرجح، وجد حيتان المال والسلطة فرصة للنجاة برؤوسهم، وتكرار الخديعة التي استخدموها بعد 17 تشرين.

ولأنّهم يرفضون أي دعم من الخارج، ما دام مشروطاً بالإصلاح، فإنّ هؤلاء الحيتان يأملون هذه المرة بالقضاء على ما تبقّى من ودائع وإراحة أنفسهم من الأعباء. وفي اعتقادهم، أنّ تحقيق ذلك لن يكون صعباً، ما دامت تجربة "الثورة" في 17 تشرين قد انتهت إلى ما انتهت إليه، وما دام الناس ساكتين ويتعايشون مع الظلم، و"ديوك" الطوائف ممسكين جيداً بـ"صيصانها".

المصدر: الجمهورية.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".