يقظان التقي
يعمّق
الانقسام السياسي الخلافات بين اللبنانيين، ما يحول دون إنتاج تسوية تنهي الشغور الرئاسي
المتواصل منذ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، والكل يجادل في كيفية الخروج من الفراغ
والصراع على الرئاسة على وقع حدّة التباعد والتجاذبات السياسية. يعلّق اللبنانيون آمالاً
على المفاوضات الخارجية في اجتماعات باريس وطهران، والإعلانات المتكررّة عن ضرورة الإسراع
في إنهاء الشغور الرئاسي الذي لم تحسمه جلسة الانتخاب الـ 12 في مجلس النواب الأربعاء
الماضي. لا يزال لبنان يبحث عن سيناريو لإنهاء الأزمة، خطوة أولى قبل تنفيذ الإصلاحات
اللازمة للخروج من الركود الاقتصادي والمالي. لم يكن متوقعاً أن يؤدّي لقاء الإليزيه
في باريس، بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلى
نتائج علنية واضحة وفورية حيال الانسداد السياسي المتمدّد في لبنان، غير ما تضمّنه
البيان المشترك "العمومي"، "ضرورة وضع حد سريع للفراغ السياسي المؤسساتي
في لبنان ... عائق رئيسي أمام حلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الأخيرة ". وقد
جاء البيان خلاصة تقييم سياسي فرنسي/ سعودي مشترك، شارك فيه سفير السعودية في لبنان
وليد البخاري، نوقش معاً، وانتهى إلى ما أظهر عدم الحسم في الموقف السعودي إزاء لبنان.
لم يأخذ الملف اللبناني حيزاً واسعاً من النقاشات، غير التطرّق السريع إلى مواقف وتبادل
أخبار، إزاء نقاشات واهتمامات أخرى بقضايا دولية، كانت محور تقارب، على مستوى شخصي
أكثر بين الطرفين، لجهة الموقف من الحرب الأوكرانية، والنظرة إلى الدور الأميركي في
ملفات العالم، ومسائل في التحدّيات الإقليمية والدولية، أمن الخليج ومحاربة الإرهاب،
والتطوّرات التي تتعلق بالملف النووي الإيراني، مع تسجيل حرص أبداه بن سلمان على الحوار
والتهدئة مع طهران لتعزيز التطوّرات الإيجابية في المنطقة. إضافة إلى ملف العلاقات
بين البلدين وخطط واتفاقيات لمدى طويل يعمل عليها منذ فترة طويلة، منها ضمانة الأسواق
الخارجية، خصوصاً ما يتعلق ببيع الأسلحة، وملف إكسبو 2030، قمّة باريس من أجل ميثاق
مالي عالمي جديد. لكن من المفترض أن يحدّد اللقاء مستقبل عمل المجموعة الخماسية للبحث
في آخر المستجدّات والانفتاح على مجموعة أفكار جديدة، سيحملها معه موفد الرئيس ماكرون
الشخصي الى لبنان، جان إيف لودريان، الذي يصل إلى بيروت قريباً، لبدء مشاوراته مع الأفرقاء
اللبنانيين.
وقد
باتت فرنسا الجانب الدولي الأكثر تحسّساً إزاء أضرار هذه الأزمة، وهو ما لفتت إليه
الفقرة الكبيرة في البيان المشترك "إذ أكد الطرفان على أهمية الاستمرار في خفض
التوتّر وتعزيز الاستقرار في المنطقة بشكلٍ مستدام، وليس بشكل ظرفي". يأتي لودريان
إلى لبنان لمناقشة الوضع كما يراه هو، مخرجاً من الانسداد السياسي، فيركّز على الأساسيات
والثوابت، مدى تمسّك أطراف النزاع باتفاق الطائف، ملفّ الإصلاحات، وإلى أي مدى يمكن
السير فيها، وهو يدرك حجم الصعوبات القائمة نتيجة التوازنات السياسية بين الطوائف،
وتمكنّها الاقليمي وإسقاطاته على الداخل، فيدعو الأطراف إلى حيز أوسع من اللبننة، من
ضمن توجّهات تراعي التوازنات الخارجية الجديدة.
سيحاول
لودريان، في مناقشاته المقبلة، تحييد لبنان عن التجاذبات الإقليمية، ولا سيما عند حزب
الله تجاه إيران وسورية، فالوضع في سورية ما زال كارثياً ولن يتغيّر، ولجهة دعوته الحزب
إلى "صياغة تفهّم أكبر لوضع لبنان" مع عدم الشعور بالانقلاب عليه جرّاء موازين
القوى الجديدة الداخلية التي لا تُلغي حضوره الإقليمي، والذي يمضي بدوره في اليمن والعراق
نحو تثبيت الاستقرار العام، فيما على الطرف المسيحي والمعارض في لبنان (نجح في تغيير
التوازنات) ألا يزيد من تفاؤله فوق الواقع، ولا سيما أنّ الأمور لا تحتمل الحسم في
لبنان. وذلك فيما الهدف انتخاب رئيس للجمهورية، يتمتع بتأييد الغالبية من المسيحيين
(استجابة أيضاً لمطلب الفاتيكان)، فالمطلوب إذاً خفض الضغط والتوتر، وإعداد صياغةٍ
داخليةٍ لكيفية العمل معاً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. تدفع كلّ من فرنسا والولايات
المتحدة منذ بضعة أعوام السعودية إلى الانخراط فعلياً في لبنان، مدفوعةً راهناً بالاتفاق
الإقليمي مع إيران، والانفتاح السعودي على سورية. تحتاج فرنسا في مبادرتها إلى دعم
من السعودية التي لا تشاء أن يكون لها الدور المباشر، مع رغبتها في أن تستمرّ باريس
في الواجهة. يحاول لودريان الانطلاق من قواعد أكثر توازناً باحتمال نجاح معادلته الجديدة،
ومن منطلق أنّ السعودية التي تضطلع بإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية، وتقوية نظام
بشّار الأسد، حريٌّ بها أن تفعل الأمر نفسه إزاء مساعدة لبنان. وتدرك باريس (ومعها
الدوحة) أنّ الاتفاقيات السعودية في المنطقة ستشمل أيضاً الملف اللبناني، إذ تخطئ استراتيجياً
بتخلّيها عن لبنان. وتسعى فرنسا لأن تحرص السعودية من أجل توفر الظروف المناسبة التي
تسهّل العملية الانتخابية، وإيصال رئيس جديد ووضع حد للانهيار الشامل في لبنان. والواضح
أنّ انتخاب الرئيس العتيد لن يحصل قبل التوصل إلى اتفاق إقليمي - دولي. ولا يشير الواقع
إلى أيٍّ من النشاطات السياسية الداخلية التي يمكن فصلها عن الموقف الخارجي، فتفتقر
المجموعات المكوّنة للبرلمان إلى ثقافةٍ جماعية، كما إلى معايير إجرائية تركّز على
إعادة انتظام عمل المؤسّسات الدستورية، فيحدث هذا الفراغ.
يتلقّى
اللبنانيون المعلومات، ولا يعالجونها بحيادية. قد يكون هناك شيء ما باستطاعة المجتمع
الدولي أن يفعله. أن يكون بمستطاع اللبنانيين أنفسهم انتخاب رئيس شيء لا يمكن تخيّله،
وهم الذين يستدعون أي إشارة تأتي من الخارج، من دون استجابةٍ توحي بإمكانية التصرّف.
صفة الموفد "الشخصي" تعني دينامية جديدة للإليزيه لعدم تضييع فرصة سياسية
على أنقاض مبادرات سابقة. وتساعد لودريان في مهمته معطيات الخلية السابقة، بقيادة باتريك
دوريل وإيمانويل بون وبرنار إيمييه، وهو ما انتهى إليه بيان تعيينه. يعود لودريان إلى
بيروت، ويربط اسمه بالمبادرة الفرنسية لعام 2020، منذ تفجير مرفأ بيروت، وبعد تصريحاتٍ
ناريةٍ أطلقها، وإشارته إلى أن لبنان يواجه خطر الزوال في حال استمرّت الطبقة السياسية
بالتقاعس عن مسؤولياتها، وهو الذي قال "الانهيار السياسي والاقتصادي في لبنان
سببه غرق سفينة تايتانيك، لكن من دون موسيقى". وكان قد وجه رسالة في شهر مايو/
أيار 2021 إلى القادة اللبنانيين، قال فيها إنّ "اللاعبين السياسيين اللبنانيين
لم يتحمّلوا مسؤولياتهم، ولم يبدأوا بالعمل بجدّية من أجل تصحيح سريع في البلد".
لودريان اسمٌ مطمئن، ومحاولة من ماكرون
لإظهار اهتمامه بلبنان والمسيحيين بعد الحملة التي شنّت عليه من صحف فرنسية، وإعطاء
حلول فكرية لمعالجة المصاعب التي تواجه اللبنانيين، غير المعنيّين بترتيب عالمهم، إلا
إذا أسعفهم الحظ، على افتراض أن الخارج يعمل لخصوصيتهم.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".