علي العبدالله
وجد الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسَه
عالقاً في مأزقٍ دقيقٍ وحرجٍ على خلفية دعمه الكبير حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها
الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فقد خرجت تظاهرات ضخمة في المدن
الأميركيّة وفي معظم الدول الأوروبية، ودعت الأمم المتّحدة ودول كثيرة إلى هُدَنٍ إنسانيةٍ
يلحقها وقف دائم لإطلاق النار، ووقف التيّار التقدّمي في حزبه الديمقراطي، بمن فيهم
يهود أميركيون تقدّميون، ضد هذه السياسة. من جهة، ضغط العرب والمسلمون الأميركيون في
الانتخابات التمهيدية لتغيير هذه السياسة بالإعلان عن عدم الالتزام بالتصويت له. ومن
جهة ثانية، تحرّك اللوبي الصهيوني والحزب الجمهوري مطالبين باستمرار دعم الكيان الصهيوني
وزيادته، لتحقيق أهداف الحرب بسحق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبقيّة الفصائل المشاركة
في الدفاع عن قطاع غزّة. وهو (بايدن) على أبواب انتخاباتٍ رئاسيّة صعبة ومقلقة، له
ولحزبه.
اعتمد بايدن تكتيك إرضاء الطرفين لاحتواء
مفاعيل ضغوط الرأي العام المحلي، وامتصاص غضب التيار التقدّمي في حزبه، وتمرّد العرب
والمسلمين الأميركيين التصويتي، بمواصلة تبنّي هدف الكيان الصهيوني المتمثّل في سحق
"حماس"، ورفض الدعوات إلى وقف إطلاق النار، ومواصلة تقديم الدعم العسكري
والمالي والسياسي للاحتلال، من جهة، وبالدفع نحو اتفاق على صفقةٍ لتبادل المحتجزين
الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، وهدنة طويلة تغطّي شهر رمضان، تقود إلى وقف الحرب
وتطبيق حلّ الدولتين، وزيادة وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين الفلسطينيين، من
جهة ثانية. غير أنّ تكتيكه تعارض واصطدم مع مصلحة حليفه اللدود، رئيس الوزراء الإسرائيلي،
بنيامين نتنياهو، الذي يسعى هو الآخر للسيطرة على تفاعلات إسرائيلية ضد إدارته الصراع
الإسرائيلي الفلسطيني، الذي قاد، وفق معارضيه، إلى تقوية حركة حماس على حساب السلطة
الفلسطينية، وضد إدارته ملفّ المحتجزين، وإفشاله المساعي الإقليمية والدولية للاتفاق
على صفقة تبادل تعيد المحتجزين لدى "حماس" والفصائل الأخرى أحياءً، وتنهي
معاناة ذويهم، واحتوائه الضغوط الأممية والدولية المطالبة بوقف إطلاق نار وتسهيل دخول
المساعدات، وإصراره على مواصلة العدوان على قطاع غزّة، بما في ذلك خطط الهجوم على رفح،
رغم التحذيرات الأممية والدولية، تحقيقاً لما يسمّيه "النصر المطلق"، باعتبار
أنّ مواصلة الهجوم وسيلة ناجحة لتفكيك ما تبقى من كتائب "حماس" (يدور الحديث
عن أربع كتائب)، وتحرير المحتجزين الإسرائيليين.
لقد وضعت الخيارات السياسية والميدانية
المتباينة لكل من بايدن ونتنياهو الحليفين الأميركي والإسرائيلي في مواجهة بعضهما بعضاً،
وزادت المصلحة الشخصية لكلّ منهما من حساسية الموقف وحدّته، في ضوء ارتباط نتائج المواجهة
بتحقيق أو إجهاض تطلّعات كلّ منهما نحو الفوز بالانتخابات الرئاسية بالنسبة للأول،
والبقاء أطول مدّة في رئاسة الوزارة بالنسبة للثاني، كي يتحاشى المحاكمة بتهمة الفساد
وتلقّي الرِشَى، وسعى كلّ منهما إلى الالتفاف على البُعد الشخصي للمواجهة. أبلغ بايدن
نتنياهو أنّه لا يعمل على إسقاطه، وأعلن نتنياهو، ردّاً على اتهامه بالعمل على إسقاط
بايدن في الانتخابات الرئاسية، أنه لا يقصد خوض معركة مع بايدن. وفي إطار عمله من أجل
تحقيق نتائج عملية في لعبة ليّ الأذرع الدائرة، لجأ بايدن إلى مواقف وإجراءات متنوعة
لإضعاف موقف نتنياهو ودفعه إلى التصرّف وفق التوجيهات الأميركيّة السياسية والعسكرية،
من دعوة الوزير في مجلس الوزراء الحربي، بني غانتس، لزيارة واشنطن للتباحث معه في الحرب
على الصعيدين، السياسي والعسكري، إلى المطالبة بتعهدٍ إسرائيليٍ مكتوبٍ بعدم استخدام
الأسلحة الأميركيّة بما يتعارض مع القانون الدولي، والتلويح بفرض عقوبات على شركة فينكلستين
ميتالز، التي تشارك في تصنيع أجزاء مخصّصة لنظام القبة الحديدية، وفرض عقوبات على قادة
مستوطنين، والبدء بإنزال مساعدات غذائية جواً للفلسطينيين في قطاع غزّة، والحديث عن
إقامة رصيف بحري مؤقّت على شاطئ غزّة لاستقبال المساعدات عبر البحر، وتسليط الأضواء
على المجاعة في القطاع، وتكرار الإدارة التأكيد على رفضها إعادة احتلال القطاع وتقليص
مساحته ورفضها تهجير سكّانه، والامتناع عن التصويت في مجلس الأمن على القرار رقم
2728، ولفتت سفيرة واشنطن لدى الأمم المتّحدة، ليندا توماس غرينفيلد، الأنظار بتصفيقها
بعد اعتماد المجلس للقرار المذكور، وكأنها أرادت إثارة جلبة تجذب الاهتمام بالامتناع
عن التصويت ودلالاته السياسية. كما ربطت الإدارة الأميركيّة بين وقف الحرب وحل الدولتين،
وصياغة نظام إقليميّ جديدٍ على أساس إقامة دولة فلسطينية من جهة والتطبيع السعودي مع
إسرائيل، وإنشاء جبهة ضدّ إيران، واعتبار المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية غير
متوافقة مع القانون الدولي من جهةٍ أخرى، مروراً بالتلويح بوقف تزويد إسرائيل ببعض
صنوف الأسلحة، وفتح ملفّ الأسلحة النووية الإسرائيلية عبر المطالبة بإجراء نقاش حولها،
ما ينهي سياسة الغموض المعتمدة. وجاءت تصريحات زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي
السيناتور، تشاك شومر، ضد نتنياهو، لتستكمل التقريع والسجال القاسي، فقال إنّ نتنياهو
"ضلّ طريقه"، ووصف رفضه حلّ الدولتين بأنّه "خطأ فادح".
لم يتأخّر ردّ نتنياهو على مواقف بايدن
وإجراءاته، تمثّل ردّه الأقوى على دعوة بايدن إلى حلّ الدولتين في تصويت الكنيست، وبأغلبية
كبيرة، ضد قيام دولة فلسطينية، وفي طرحه وثيقته عن "اليوم التالي"، التي
انطوت على إنشاء منطقة عازلة، ما يعني تدمير منازل الفلسطينيين في هذه المنطقة وتشريد
سكّانها بشكل دائم، وتقليص مساحة قطاع غزّة، واحتلاله فترة غير محدودة، وتفكيك وكالة
غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتّحدة (أونروا)، وإقامة إدارة مدنية
فلسطينية في القطاع يتولّاها موظّفون غير مرتبطين بحكومة حركة حماس، إلى جانب إشراك
دولٍ عربيةٍ في إعادة إعمار قطاع غزّة. وضعت الوثيقة الإدارة الأميركيّة في مأزق، فقد
اعتبرت لُغماً في طريق المحادثات التي تجريها الإدارة الأميركيّة حول "اليوم التالي".
وكانت خطوات نتنياهو التالية رفض الدعوات لإنهاء الحرب عبر صفقة لتبادل المحتجزين والأسرى،
وصولاً إلى وقف الحرب واستخدام كلّ الطرق لإجهاض المفاوضات حول الصفقة، وجاء ردّه على
امتناع الولايات المتّحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن بإلغاء زيارة وفد رسمي إلى
واشنطن لمناقشة الهجوم المحتمل على رفح. حتى حين تراجع عن قراره، أرسل إلى واشنطن مبعوثَيْن
قريبَيْن منه سياسياً، ومُتمسكَيْن مثله باجتياح رفح، وهما وزير الشؤون الاستراتيجية،
رون ديرمر، ومستشار الأمن القومي، تساحي هنغبي. اعتبر معلّقون تشكيلة الوفد "عقاباً
حقيقياً فرضه نتنياهو على البيت الأبيض". كما وظّف نتنياهو توسيع الهجمات على
مواقع حزب الله والحرس الثوري الإيراني، في سورية ولبنان، في الضغط على الإدارة الأميركيّة
لوضعها أمام بديلين خطيرين: اجتياح رفح أو حرب شاملة مع حزب الله.
لن تتكشّف نتائج عملية ليّ الأذرع بين
بايدن ونتنياهو قريباً، فالخلاف بشأن ملفات ساخنة؛ وقف الحرب، واجتياح رفح، تخضع لحسابات
وتوازنات دقيقة، فموقف بايدن من تفكيك حركة حماس متطابقٌ مع موقف نتنياهو، وإن كان
يرى إمكانية تحقيق ذلك من دون اجتياح رفح، بتطويقها وتنفيذ عمليات خاصّة وخاطفة ضد
قيادات "حماس" وكوادرها، وهو غير قادر على الضغط على نتنياهو بقوّة للتخلي
عن مخطط اجتياح رفح، لأنّه يعلم أنّ الأخير يحظى بدعم قوي من الحزب الجمهوري ومن بعض
الديمقراطيين، كما يعلم أنّ من غير المُرجّح أن يعاقب الكونغرس إسرائيل حتى لو قتل
نتنياهو آلاف المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وأنّه وضع نفسه بامتناعه عن التصويت
في موقف أكثر حرجاً، حين رفع بهذا القرار سقف التوقّعات، فسيكون لتمرير القرار من دون
تنفيذه نتائج سياسية سلبية عليه، وموقف نتنياهو المتمسّك بمواصلة الحرب واجتياح رفح
مُنسجم مع الرأي العام الإسرائيلي، الذي ما زال يعيش تحت هول صدمة "طوفان الأقصى"
ويدعو إلى الانتقام. نتيجة لذلك، ستضطر الإدارة الأميركيّة للموازنة بين رغبتها في
إنهاء الحرب واستعادة المحتجزين وتقديم مزيد من المساعدات الإنسانية للفلسطينيين من
جهة ورغبتها في هزيمة "حماس" من جهة أخرى، وفق المحلّل السياسي والعسكري
في معهد هدسون، ريتشارد وايتز. وإصرار نتنياهو، المدعوم من الرأي العام الإسرائيلي،
على اجتياح رفح، رغم معارضة بايدن، سيعزّز موقفه بين مؤيّديه وفي الشارع الإسرائيلي،
لكنه سيخسر معه تأييد الإدارة الأميركيّة والشركاء الأوروبيين والعرب المطبّعين مع
إسرائيل، من دون استبعادٍ لاحتمال تقليص الدعم العسكري من الحلفاء، إذ تكررت الدعوات
الأوروبية لوقف بيع أسلحة لإسرائيل، وسرّبت الإدارة الأميركيّة أنباءً عن عدم تلبية
كل طلبات وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، من الأسلحة، وهو ما سيؤثر على قوة الجيش
الصهيوني القتالية، ويضعف قدراته الردعية، خاصّة وأنّ النقاشات مع غالانت عن رفح لم
تصل إلى نتيجة واضحة ومُرضية لواشنطن، ما استدعى قرارها إرسال وفد من جنرالات أميركيين
إلى الكيان الصهيوني للبحث مع قيادة الجيش عملية رفح، فاجتياح رفح مرتبطٌ بشكل مباشر
بموافقة الإدارة الأميركيّة، وتنفيذه رغم معارضتها سيطرح احتمال تراجع دعمها لإسرائيل.
ختاماً، سعي الإدارة الأميركيّة إلى
دفع نتنياهو إلى قبول تصوراتها لـ"اليوم التالي"، والعمل مع آخرين لإطاحته
في حال لم يتحقّق ذلك، لا يعني أنّ توجهاتها تصبّ في صالح الفلسطينيين، فتصوراتها للحل
النهائي ضبابية، وتحقيقها ليس أكيداً.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".