علي أنوزلا
فرنسا تحترق
.. هكذا عنونت صحفٌ كثيرة تقاريرها لتصف ما يجري في فرنسا، وعلى شاشات القنوات التلفزيونية
العالمية كانت تبَثّ مشاهد الخراب والدمار نفسها التي تعوّد المشاهد رؤيتها في دول
تشهد حروبا طاحنة، في فلسطين وأوكرانيا والسودان، المشاهد نفسها مع اختلاف في الديكور.
سيارات تحترق وشوارع تخترقها المتاريس وتحجُبها أعمدة الدخان وواجهات متاجر وبنايات
طاولها التخريب والدمار. بل وثمّة تقارير ذهبت إلى أن فرنسا على حافّة حرب أهلية، ما
دفع وسائل إعلام عديدة، خصوصا الرسمية، في دول العالم الثالث، إلى أن تسخر من تدهور
حالة الفوضى وانعدام الأمن في فرنسا.
ما الذي يجري
في فرنسا؟ الشرارة التي أدّت إلى انفجار الوضع في ضواح عديدة في كبريات المدن الفرنسية
مقتل مراهق فرنسي اسمه نائل من أصول جزائرية بدم بارد في ما يشبه إعداما خارج القانون،
ومن عناصر في الشرطة الوطنية الفرنسية. وليست هذه هي المرّة الأولى التي تقع فيها مثل
هذه الجريمة، لأن ما وقع فعلا يرقى إلى جريمةٍ ارتُكبت باسم القانون ومن مؤسسة إنفاذ
القانون، فخلال العام الماضي "أعدمت" الشرطة الفرنسية نحو 26 شخصا بالطريقة
نفسها تحت ذريعة عدم امتثالهم للأوامر، وكأن عدم الامتثال للأمر أصبح يعاقَب عليه بالإعدام،
لأن تعديلا أدخل على قانون الأمن الداخلي عام 2017 خفّف شروط استخدام الأسلحة النارية
من الشرطة، ووضع عناصرها فوق القانون، وأصبح الإفلات من العقاب بالنسبة لمن يرتكبون
جرائم القتل بهذه الطريقة البشعة واقعا يحميه القانون.
لكن، لماذا
انفجر الوضع في حالة إعدام نائل ولم ينفجر من قبل، خلال حالات القتل السابقة والمشابهة؟
لا يستدعي الجواب كثيرا من التحليل، لأن من يتابع الأحداث في فرنسا يدرك أنها تعيش
على صفيحٍ ساخن منذ عدة عقود، وكما شبّهتها رشيدة داتي، وزيرة العدل السابقة، من أصول
مغربية، فهي مثل طنجرة ضغطٍ على وشك الانفجار، وبدلا من تنفيسها يتم إحكام غطاء الطنجرة
كل مرة. والغطاء هنا في هذه الحالة، وكما شبهته داتي، هي الشرطة وقوانينها التي يتم
تشديدها كل مرّة عندما يوشك الانفجار أن يقع، وهو ما يعطّله ويبقي خطره قائما. حدث
هذا في أثناء ثورة العصيان المدني في الأحياء الهامشية الباريسية عام 2005، وتكرّر
مع انتفاضة "السترات الصفراء" عام 2017، وعاشته فرنسا، أخيرا، طيلة سنة ونيف
في أثناء فرض رئيسها إيمانويل ماكرون قانونا يرفع سنّ التقاعد، بقرار أحادي وفوقي ضدا
على كل النقابات والحركات الاجتماعية التي نزلت إلى الشوارع تحتج ضده بالملايين عدّة
شهور بدون جدوى!
لكن، هل يجب
اختزال ما يقع في فرنسا في هذا "العنف الشرعي" المتصاعد للشرطة الفرنسية
ضد طائفةٍ من مواطنيها، يتحدر أغلبهم من أصولٍ هاجرت إلى فرنسا؟ طبعا، تركّز القراءة
الأولى على عنف الشرطة المتصاعد والمحميّ من القانون، وهذا أمرٌ واقعٌ في فرنسا تنتقده
وتندّد به منظمات حقوقية عديدة داخل فرنسا وخارجها. ومع الأحداث، أخيرا، جاء التنديد
من مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان التي قالت إن عنف الشرطة أصبح ظاهرة
متجذّرة في صفوف الأمن الفرنسي يجب محاربتها. وخلف هذه القراءة التشخيصية التي تقف
عند ظاهرة عنف الشرطة الذي أصبح قاعدة داخل الأحياء الهامشية التي يقطنها الفرنسيون
من أصول مهاجرة، يوجد ما هو أعمق، أي انسحاب الدولة من كل التزاماتها القانونية والاجتماعية
تجاه فئةٍ من مواطنيها مع تفويض جميع صلاحياتها لجهاز "قمعها الشرعي" الممثل
في الشرطة والدرك، لفرض حالة من السلم الاجتماعي تغطّي على حالة فظيعة من الظلم الاجتماعي.
والنتيجة أو ثمن هذه المقاربة الأمنية المحضة هي حالات الانفجار التي تشهدها فرنسا
دوريا، وسوف تستمرّ ما دام المشكل قائما، ولم تتم معالجته في العمق. والمعالجة هنا
تبدأ من فكّ حالة العزلة والتهميش على أحياء الضواحي التي تحوّلت إلى "غيتوهات"،
يُحشر فيها الفرنسيون من أصول مهاجرة، وهذه تحتاج إرادة سياسية قوية وتصوّرا مجتمعيا
جديدا يخلّص فرنسا من عقدها الاستعمارية القديمة. والمعالجة من مستوى ثانٍ وموازٍ يجب
أن تنصرف إلى اجتثاث ظاهرة العنصرية في صفوف المنتمين إلى الشرطة الفرنسية، لأنها أصل
هذا العنف المبالغ فيه والمتصاعد، خصوصا ضد الفرنسيين من أصول مهاجرة، فالعنصرية داخل
هذا الجهاز تحوّلت إلى ما يشبه "العقيدة" تحميها نقابات الشرطة القوية، وتشجّعها
وتغذّيها خطابات اليمين المتطرّف المتنامي داخل المجتمع الفرنسي. ومع الأسف، هذه ظاهرة
أصبحت أوروبية تتمدّد من إيطاليا حتى السويد وفنلندا ومن هنغاريا حتى فرنسا.
الوجه الآخر
لما يقع في فرنسا هو أعمق مما سبق، لأنه يكشف عن حالة الانسداد السياسي والمؤسّساتي
التي وصل إليها نظامها "الليبرالي" في عهد الرئيس ماكرون، الذي رجّح كفّة
المقاربة الأمنية، وأغلق جميع قنوات الحوار الديمقراطية، وهمّش دور المؤسّسات الدستورية
بما فيها دور البرلمان، مستعملا "الفيتو" الرئاسي الذي يمنحه سلطات الحكم
بشكل فردي. وأدّى هذا الوضع إلى حالةٍ من الاستقالة للسلطة السياسية للدولة التي أصبحت
مختزلةً في جهاز واحد، هو جهاز إنفاذ القانون، أو بالأحرى إنفاذ أوامر الرئيس ضدّا
على الشعب ومؤسّسات تمثيله. وانطلاقا من التجارب السابقة، خصوصا انتفاضة السترات الصفراء
والاحتجاجات ضد نظام التقاعد، يبدو أن ماكرون المتعجرف لا يرعوي. ولذلك لا ينتظر منه
أن يرعوي هذه المرّة أيضا، وسوف يستمرّ في "تجبّره"، بعد أن تهدأ موجة الإعصار
الأخيرة.
ما يوجد على
المحكّ اليوم ليس هو مستقبل رئيسٍ سوف تنتهي ولايته الثانية بعد أربع سنوات ويمضي إلى
حال سبيله، وإنما مستقبل "النظام الجمهوري" الفرنسي الذي أصبح في حاجةٍ إلى
تعديل جذريٍّ يُحدث تحوّلا عميقا في أسس الدولة التي تنزاح تدريجيا عن مبادئ ثورتها
الكونية التي شكلت، على مر قرون، سرّ فرنسا الثورة والأنوار. أما السيناريو الأسوأ
فهو حكم اليمين الفرنسي، وهذا واقعٌ أصبح منتظرا، والأحدث أخيرا إن لم تُحدُث الرجّة
التي ستوقف زحفه فهي، في النهاية، ستكون في صالحه وتعجّل بوصوله إلى سدّة الحكم عام
2027 ، وعندها يجب انتظار ما هو أسوأ!
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة
في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".