محمد أحمد بنّيس
ودّع
العالمُ سنة 2023 على وقع زلزال فكري وثقافي وأخلاقي غير مسبوق، فلم يكن العدوان الذي
شنّه الكيان الصهيوني، ولا يزال، على قطاع غزّة مجرّد جولة في صراع طويل ومعقد، بقدر
ما كان محطّة مفصلية، وقفت فيها شعوب العالم على الحقيقة السافرة للغرب بمختلف تبدّياته.
وفي الوسع القول إن المعمار الفكري والثقافي الذي شيّده الغرب على مدار القرون الأربعة
الأخيرة يوشك أن يتداعى، في ظل انحيازه الأعمى لآلة القتل الإسرائيلية الغاشمة في استهدافها
النساء والأطفال والشيوخ في قطاع غزّة، وذلك بعدما نجحت دولة الاحتلال في توظيف ساسةِ
الغرب وقطاعٍ عريض من نخبه ومنتدياته وإعلامه في بناء خطابٍ يُشرعنُ حرب الإبادة التي
تشنّها على الشعب الفلسطيني، أو على الأقل يبرّرها.
اليوم،
يقف شرفاء الغرب وأحرارُه على الخديعة الكبرى التي مارسها الإعلام الغربي، بترويجه
خطابا ينبني على العنصرية والكراهية وتزييف الحقائق التاريخية وتدويرها، كي تبدو
''حقائق'' إسرائيلية لا يرقى إليها الشك. لم يقدّم هذا الإعلامُ ''طوفانَ الأقصى''
باعتبارها نتيجة حتمية لغطرسة دولة الاحتلال وإصرارها على المضي في مخطّطات التهويد
والاستيطان والأسرلة، ولا باعتبارها مقاومة مشروعة في مواجهة جرائمها، بل قدّمها
''إرهابًا فلسطينيا'' بحقّ المدنيين الإسرائيليين. وحين كُشف الستار عن هذه الخديعة،
وشرع الرأي العام الغربي في مراجعة قناعاته وتمثّلاته بشأن الصراع، لم يعد التعاطُف
مع الفلسطينيين في الغرب يندرج ضمن حرّية التفكير والتعبير التي يُفترض أن الغرب، كنسق
فكري وثقافي، يضمنها، بل أصبح من أشكال معاداة السامية، التي باتت معادلا موضوعيا لمناهضة
السياسات العنصرية الإسرائيلية. وحين بدأت قطاعاتٌ واسعة من الرأي العام الغربي تفطن
إلى المأزق الأخلاقي والثقافي الذي جرّها إليه الإعلام الموجَّهُ، كان الأوان قد فات،
بعدما وصل عدد الضحايا إلى أكثر من 22000 شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمشرّدين،
في أكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لقد
أسقطت المجازر اتي ارتكبتها قوات الاحتلال آخر ورقة توتٍ كان الغرب يستُر بها عوراته،
وكرست حقيقته الاستعمارية ونفاقه وازدواجية معاييره في تعاطيه مع الأزمات الدولية الكبرى.
لقد كان موقفه غير الأخلاقي من مقتلة غزّة امتدادا لسياساته الاستعمارية حيال بلدان
الجنوب، بدعمه الاستبداد والفساد في هذه البلدان، ونهب ثرواتها تحت يافطة اتفاقيات
الشراكة، وضرب استقرارها بفرض برامج التقويم الهيكلي القائمة على الخصخصة وتفكيك القطاع
العام والحدّ من الإنفاق العمومي، بما يُهدّد السّلم الاجتماعي في هذه البلدان. ولا
شك أن انخراط طيفٍ غير يسيرٍ من الأكاديميا الغربية في تبرير هذا الإفلاس الأخلاقي
زاد من قتامةِ الصورة ودراماتيكيّتها.
كان
العدوان الإسرائيلي على غزّة الحلقة الأكثر دلالة في إفلاسِ خطابٍ غربيٍّ يبرّر الإبادة،
إن لم نقل يشرعنُها. وبقدر ما كانت أعداد الضحايا الأبرياء في غزّة ترتفع، كانت الأسس
الفكرية والثقافية والأخلاقية للحداثة الغربية المنادية بتحرير الإنسان من سلطة الظلم
والقهر والاستبداد تتداعى، فيما يشبه انتحارا حضاريا في توقيتٍ لا يخلو من دلالة؛ ذلك
أن الغرب بموقفه المخزي مما يتعرّض له الفلسطينيون في غزة يكون قد دقّ أول مسمار في
نعش النظام الدولي الحالي، بما يتيح تحوُّلَه نحو نظام متعدّد الأقطاب، تصير فيه الصين
وروسيا وقوى دولية أخرى فواعلَ رئيسةً في عالم الغد.
كشفت
مقتلة غزّة أبشع ما في الغرب. وليس هناك أبشع من الانتصار لكيانٍ غاصبٍ ومجرم وعنصري
في مواجهة شعبٍ مظلوم، يرفض التخلي عن أرضه وذاكرته وحقوقه، في توظيفٍ خسيسٍ لمختلف
عناصر القوة، وفي مقدّمتها وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي بما لها من تأثير
لا يُجارى في تشكيل التمثّلات والمواقف. لكن يبدو أن حبل الكذب الغربي قصيرٌ، فما يحدُث
في الغرب يؤشّر إلى أن ما بعد سنة 2023 لن يكون كما قبلها.
المصدر:
العربي الجديد.
الآراء
الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".