معين الطاهر
بات واضحًا
أن الحرب في غزّة وعليها لن تتوقف خلال عام 2024، بل قد تمتد ذيولها إلى ما بعد هذا
العام. وهي حربٌ سيكون لها ما بعدها فلسطينيًا وعربيًا، كما هو إسرائيليّاً ودوليّاً،
يهتم هذا المقال بتتبع مسارات الحرب خلال عام 2024، في محاولة أولى لمعرفة محاورها
واتجاهاتها ونتائجها المتوقعة، وهي محاولة محكومة بمسارات الحرب ذاتها التي تتأثر نتائجها
بقدرات المقاومة وصمودها، وخططها العملياتية، إضافة إلى مدى قدرة الجيش الإسرائيلي
على تحقيق أهدافه المعلنة، أو خفض سقفها باتجاه أهداف أخرى، نتيجة لخضوع القرار العسكري
العملياتي للتوجيهات السياسية، وتأثير نتائج الحرب في المجتمع الإسرائيلي وحكومته،
ولعل أحد العوامل المهمة التي ستؤثر أيضًا في مسارات الحرب احتمالات توسعها، وحراك
الشعوب العربية، وتضامنها مع المقاومة في غزّة، وتغيّر الرأي العام العالمي الساعي
إلى وقف هذه الحرب، ومدى استجابة الولايات المتحدة الأميركية لذلك، أو استمرارها في
تقديم دعمها غير المحدود للكيان الصهيوني، إضافة إلى موقف النظام الرسمي العربي.
كانت عملية
طوفان الأقصى معجزة عسكرية بالمعنى العلمي للكلمة، إذ دمّر بضع مئات من مقاومي كتائب
عز الدين القسام فرقة عسكرية إسرائيلية كاملة عُرفت باسم "فرقة غزّة"، وتمكّنوا
من تجاوز الجدار الإلكتروني الذي يفصل قطاع غزة عن غلافه، بعد أن مارسوا عملية تضليل
واسعة جعلت أجهزة الأمن الإسرائيلية عاجزة عن اكتشاف ما يُخططون له منذ أشهر وسنوات،
وأدّت إلى نجاح العملية العسكرية وتحقيق مفاجأة كاملة، ما سيؤدّي لاحقاً، بعد انتهاء
الحرب أو خلالها، إلى إطاحة رؤوس كبيرة بتهمة التقصير على المستويين العسكري والسياسي.
الإنجاز الأكبر
والأعظم كان في المعارك التي وقعت بعد 7 أكتوبر، والتي تجلّت فيها استراتيجية المقاومة
وخططها العملياتية، حيث اتضح حجم التجهيز والاستعداد المسبق الذي امتد سنوات، خاصة
على مستوى إعداد المقاتلين وتدريبهم ليتمكنوا من القتال ضمن مجموعات صغيرة منفردة مكلّفة
بمهام محددة، وهذا يتطلب تدريباً وإعداداً خاصّاً، ونظاماً لمنظومة القيادة والسيطرة
في القسام يختلف جذريًا عن ذاك المتبع في الجيوش النظامية، إذ اعتمدت توزيع المهام
والواجبات مسبقًا، وهو ما نُفّذ بنجاح حتى اللحظة، وساهم في إدامة المقاومة وتماسكها،
وتمكينها من مواصلة القتال على كل المحاور التي يتقدم فيها الجيش الإسرائيلي، إذ لم
تتبع المقاومة أسلوب التصدّي عبر محاور وخطوط تماسٍ وجبهات ثابتة تستلزم حشد القوات
في نقاط محددة تمنع تقدّم العدو، على نحو يستنزف ذخائرها، ويعرّضها لضربات كبيرة، في
ظل تفوّق قوة العدو، ويشتّت قواتها في حال نجاحه في إحداث خرق في خطوط التماسّ. على
خلاف ذلك، اتبعت المقاومة، نتيجة إدراكها طبيعة ميزان القوى العسكري بينها وبين الجيش
الإسرائيلي، تكتيكات مختلفة تعتمد بقاء كل مجموعة في منطقتها، والاشتباك مع العدو حين
ينشر قواته، وهذا ما يمنحها أفضلية معرفة الأرض، والقدرة على اصطياد آلياته وجنوده،
ويمكنها من حفظ ذخائرها ضمن مبدأ الاقتصاد في القوى؛ إذ تخرج المجموعة المقاتلة من
مخبئها، فتضرب ضربتها، ثم تنسحب من الموقع بسرعة، قبل أن يعاود الجيش الإسرائيلي قصفه.
ونتيجة لهذا الأسلوب، تمكّنت المقاومة من مواصلة القتال في أرجاء القطاع، بما فيها
الأماكن التي أعلن العدو سيطرته عليها.
المسألة الثانية
التي ساهمت في تحقيق الإنجاز الكبير هي شبكة الأنفاق الواسعة التي ما زالت صندوقًا
أسود، إذ عجز العدو وأجهزته الأمنية عن اكتشاف حجمها، وطرق اتصالها، وبنيتها اللوجستية
التي اكتشف حديثًا أنها تضم غرف عمليات عسكرية، ومستشفيات ميدانية مخصصة لعلاج جرحى
المقاومة. كما عجز عن تمييز فتحات الأنفاق الحقيقية وتلك الوهمية التي استُخدمت مصائد
تكرر انفجارها في وجوه جنود سلاح الهندسة الصهيوني. وكذلك لم يتوصل الاحتلال إلى طريقة
لتدمير هذه الأنفاق، ففشل في قصفها، أو إغراقها بالمياه، كما عجزت طائرات الاستطلاع
الأميركية والبريطانية عن معرفة مواقعها، ليُضاف فشلها إلى فشل أجهزة الأمن الإسرائيلية
في رصدها وتحديد مواقعها سابقًا، على الرغم من أن عملية إنشائها استغرقت سنوات عدة.
وقد أدّت هذه الأنفاق دورًا مركزيًا في إدارة المقاومة للحرب التي نقلتها من فوق الأرض
إلى تحتها، فحيّدت بذلك قدرة العدو على استخدام فائض القوة النارية التي دمر بها المباني
والأبراج السكنية، لكن تأثيرها بقي محدودًا للغاية على الأنفاق، فاضطر إلى توزيع قوات
المشاة والمهندسين والوحدات الخاصة على كل شبر من غزّة، بحثًا عن فوهة نفق، أو منصة
صواريخ مخبّأة تحت الأرض، ثم دفع بوحدات المشاة الراجلة للاشتباك مع ما تعثر عليه منها،
ففقدت بذلك مدرعات العدو ودباباته ميزتها وقدرتها على الاندفاع خارج محاور التقدم،
لتصبح مهمة الدبابة حماية فصيل مشاة يتقدّم، ثم لا تلبث هي وأفراد الفصيل أن يقعوا
في مرمى نيران المقاومة.
بعد نحو أربعة
أشهر منذ اندلاع الحرب، ما زالت المقاومة صامدة، ولم يتمكّن العدو من ادّعاء بسط سيطرته
سيطرة كاملة على أي منطقة في غزة، بما فيها شمالها، وإن كان قد تمكّن من فصل أجزاء
القطاع بعضها عن بعض، والتقدم باتجاه المحاور الرئيسة، وتدمير ما يزيد على 70% من المباني
السكنية، والبنية التحتية والخدماتية والصحية،
وتحويل قطاع غزّة إلى منطقة غير صالحة للحياة، إضافة إلى قتل وجرح أكثر من مائة ألف
مواطن غزي.
لا يزال سقف
الأهداف الإسرائيلية في هذه الحرب مرتفعاً، إذ تحدد بالقضاء على حركة حماس، واستعادة
الأسرى الصهاينة، والسيطرة على قطاع غزّة، لكن الحكومة الإسرائيلية لم تتمكن من اتخاذ قرار حول اليوم الثاني بعد الحرب، وأعضاءها مختلفون
بين خيارات احتلال غزة والبقاء فيها، وإعادة استيطان أجزاء منها، وتهجير أهلها قسرياً،
أو تحويلها إلى منطقة لا يمكن العيش فيها، وإقامة منطقة عازلة حولها، أو تأسيس إدارات
محلية من المتعاونين مع الاحتلال، وقلة منهم قالوا بتسليمها إلى السلطة الفلسطينية،
بعد (إصلاحها وإعادة تأهيلها)، مع إجماعهم على إبقاء حرية الحركة والمطاردة الساخنة
للجيش الاسرائيلي مثل ما يحدُث حاليًا في الضفة الغربية.
هذا الارتباك
في أداء الجيش الإسرائيلي الذي اعتبر معركته في غزة معركة وجود واستقلال ثانٍ، ورفع
سقف توقعاته منها، يفسر سبب إطالة مدة الحرب على مستويات مختلفة، وقد نشهد خلال عام
2024، وربما مدة أطول، تصعيدًا كبيرًا في بعض الأوقات، وعمليات محدودة في أوقات أخرى،
إذ إن هذه الأهداف في أغلبها غير قابلة للتحقيق، ومن المرجح أن تتراجع إسرائيل عن الجزء
الأكبر منها. أما المقاومة فسوف تستمر وفق تكتيكاتها الحالية القائمة على قنص أفراد
العدو وآلياته، من خلال مجموعات صغيرة العدد، مع إمكانية المبادرة بنصب كمائن على مستوى
مجموعات أكبر، وتأكيد قدرتها على إعادة الانتشار والتمركز من جديد في المناطق التي
ينسحب منها الجيش الإسرائيلي. وستكون مهمة المقاومة الأساسية إدامة الاشتباك مع العدو،
لكن مع استمرار الحرب، ستعاني المقاومة تدريجيًا تقلصًا في قدراتها الصاروخية. أما
عامل الضغط الأساسي الذي ستواجهه المقاومة فيتمثل بالوضع الإنساني المتدهور، ونقص المساعدات
والخدمات، والنزوح المستمر من منطقة إلى أخرى، وهو ضغطٌ يمسُّ بشكل كبير حاضنتها الشعبية،
ولعل مواجهة هذا الجانب في الحرب لا يتعلق بالمقاومة وحدها - وإن كان من صلب واجباتها
- وإنما يمسّ أيضًا الجماهير العربية، والنظام الرسمي العربي، والمجتمع الدولي، والمنظمات
الدولية التي تقع عليها جميعًا مهمة مساعدة أهالي غزّة، وإنقاذهم، وتوفير مقوّمات الحياة
الأساسية لهم، ووقف الإبادة الجماعية التي يتعرّضون لها.
يتوقف معيار
النصر والهزيمة في هذه الحرب على الطريقة التي ينظر بها إليها كل طرف، والأهداف التي
يسعى لتحقيقها. وبلا شك، فإن نهاية الحرب ليست كبدايتها؛ لا للطرف الصهيوني ولا للمقاومة،
وسنشهد خفضا على سقف التوقعات، تبعًا لمسارات الحرب. ادّعاء الجيش الإسرائيلي انتصاره
في هذه الحرب يتطلب نجاحه في تصفية المقاومة، وفرض سيطرته الكاملة على غزة، أما المقاومة
فمعيار نصرها هو بقاؤها وصمودها، على الرغم من الضربات والخسائر التي قد تلحق بها.
نتيجة هذه الحرب تحددها، أولًا وقبل كل شيء، مسارات الحرب ذاتها، بما في ذلك احتمالات
توسعها، وتحديدًا على جبهة الجنوب اللبناني. لكن ينبغي الحذر مما تتمخض عنه من نتائج
سياسية؛ ترتيبات اليوم التالي للحرب، وشكل الإدارة التي ستدير غزة، وإمكانية إحضار
قوات دولية وعربية تتولى مهمة نزع سلاح المقاومة، ذلك كله قد يضع المقاومة - على الرغم
من صمودها واستمراريتها في الميدان - في مواجهة أوضاع جديدة تدفعها إلى تغيير تكتيكاتها.
أما الفلسطينيون
كلهم، فيحتاجون في هذا العام والأعوام التي تليه إلى النظر إلى المقاومة بوصفها عملية
شاملة، يشارك فيها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والداخل والشتات بطاقاته كلها،
وتتعدّد أشكالها لتشمل العمل المسلح المنظم والفردي، والمقاومة الشعبية والجماهيرية،
والنضال ضد نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري، والتنمية والإعمار. وهذا يتطلب وحدة
الصفوف، وتحديد دحر الاحتلال هدفاً رئيساً للكل الفلسطيني المتمسك بروايته التاريخية،
والنظر إلى معركة طوفان الأقصى بوصفها خطوة على هذا الطريق، حققت انتصاراً في هذه الجولة
من الصراع الطويل، ومهّدت لخطوات أخرى لاحقة.
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة
في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".