مسارات ما بعد الانتخابات التركية
أيار 13, 2023

د. وائل نجم

يتوجّه غدا (14 مايو/ أيار) قرابة 60 مليون ناخب تركي إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخاباتٍ أقلّ ما يُقال فيها إنّها ستحدّد مصير تركيا، بل ربما مناطق عديدة من العالم، وسترسم مسارات جديدة في الداخل التركي وعلى مستوى علاقات وسياسة تركيا الخارجية.

وعلى أهمية الانتخابات النيابية التي تجري بالتوازي مع الانتخابات الرئاسية، غير أنّ ما يأسر الاهتمام ويشدّ الأنظار المنافسة المحتدمة بين المرشّحين الرئاسيين الرئيسيين، رجب طيب أردوغان وكمال كلجدار أوغلو. إذ يتحدّد على فوز أحدهما مصير تركيا ومستقبلها، وتتكشّف المسارات التي يمكن أن تسلكها تركيا في المرحلة المقبلة. ولذلك، تتعامل أغلب الدول مع الاستحقاق التركي كما لو أنّه دولي عالمي، وليس حدثاً تركياً داخلياً، خصوصا أنّ سياسة تركيا الخارجية، بقيادة أردوغان، اعتمدت في الأعوام الأخيرة مبدأ التوازن بالعلاقة بين المحاور الدولية أو حتى في علاقاتها الثنائية مع الدول، على الرغم من عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يدعم بشكل واضح أوكرانيا في الحرب المستمرّة مع روسيا، فيما أرادت دول عديدة أن يكون لتركيا موقفٌ منحاز إلى جانبها، وهو الشيء الذي تسعى إليه هذه الدول، من خلال محاولة التأثير بشكل غير مباشر (الضغط الاقتصادي) على نتائج الانتخابات، حتى لا تستمر سياسة التوازن المعتمدة من الحزب الحاكم حالياً ومن رئيسه أردوغان.

لا شيء محسوما في نتائج الانتخابات، وهذا يدلّ على ديمقراطية قليلة إن لم نقل ضئيلة الشوائب، غير أنّ أغلب استطلاعات الرأي التي أجرتها، أخيرا، شركات إحصاء عديدة ومتنوّعة، رجّحت فوز الرئيس أردوغان من الدورة الأولى بفارق ضئيل، وذهب بعضها إلى ترجيح فوز أردوغان في الدورة الثانية. وما يساعد على فهم هذه النتيجة وتقبّل نتائج هذه الاستطلاعات أمران مهمّان: الأول، التجمّع الضّخم الذي تمكّن حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان من حشده في حديقة مطار أتاتورك (قرابة 1.7 مليون) في أكبر مهرجان انتخابي تشهده تركيا على مرّ عصورها، بل ربما في أكبر تجمّع انتخابي يشهده العالم، وقد حمل الناخب التركي من خلاله رسالة واضحة الدلالة في وقوفه إلى جانب أردوغان، وفي ميله له وتأييده سياساته. وقد شكّل التجمّع صدمة كبيرة للمعارضة التي لم تتمكّن من أن تحشد في تجمّعاتها كلّها هذا العدد. كما شكّل التجمّع صدمةً لدول تقف خلف المعارضة، وتوفّر لها الدعم، ليس لشيء سوى للتخلّص من أردوغان، وظهر ذلك في متابعات لوسائل إعلام أوروبية وأميركية تُعدّ جزءاً من مطبخ صناعة القرار في دولها.

الأمر الثاني الذي لا يقلّ أهمية، وربما هو ما ساعد أو سيساعد على حسم المعركة الانتخابية لصالح أردوغان يتمثّل في تبدّل اهتمامات الناخب التركي وأولوياته خلال الفترة الأخيرة بشكل واضح؛ فقد كانت الأولوية التي تحكم مزاج الناخب التركي اقتصادية بالدرجة الأولى، في ظلّ ارتفاع الأسعار والمشكلات المتصلة بالجانب الاقتصادي الحياتي للتركي، لتصبح الأولوية الأساسية التي تحكم شريحة واسعة من الناخبين الذين يشغلون المنطقة الرمادية هي الأمن القومي على حساب الاقتصاد؛ وقد برز ذلك بعد أن ظهر التحالف بين أحزاب المعارضة الستة (الطاولة السداسية) وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيّد، بنظر الناخب التركي، من حزب العمال الكردستاني المُصنّف في تركيا على قوائم الإرهاب. وهنا اكتشف الناخب التركي الموجود في المنطقة الرمادية، وهي شريحة ليست قليلة، أنّ الأمن القومي التركي مهدّد، فيما لو تمكّن مرشّح المعارضة من الفوز. وبالتالي، انقلبت الأولويات لدى هذه الشريحة من الاقتصاد إلى الأمن القومي، ورأت في أردوغان ما يضمن سلامة تركيا واستقرارها. وسيكون لهذين الأمرين أو العاملين أثر كبير في التصويت وفي نتائج الانتخابات.

أمّا عن مصير تركيا ومساراتها في ضوء النتائج التي ستظهر، فمن المرجح أن تستمر سياسة التوازن فيما لو فاز أردوغان وحزبه على صعيد السياسة الخارجية، مع ميل إلى الانخراط أكثر في بعض الملفات أو المناطق، بالنظر إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تؤدّيه تركيا، وبالنظر إلى تأمين مصالحها. وعلى مستوى الداخل التركي، سيمضي أردوغان في ترسيخ مبادئ دولته وأركانها، بحيث يضمن استمرار هذا التوجّه بعده.

وفي حال فازت المعارضة، فقد يعيد ذلك خلط أوراق كثيرة على مستوى السياسة الخارجية، إذ يمكن أن تنحاز تركيا إلى جانب الغرب وتتخلّى عن سياسة التوازن، خصوصا في ملفات يحتاج الغرب (أوروبا وأميركا) فيها إلى اصطفاف تركي واضح معه (أوكرانيا). وعلى صعيد الداخل، فإنّ دفاتر قديمة قد يُعاد فتحها لمحاسبة الحزب الحاكم، بغرض إقصائه تدريجياً عن موقع القرار، غير أنّ ذلك يحمل مخاطرة كبيرة، ستترك تركيا تنشغل في أزماتها الداخلية عن دورها وطموحها الإقليمي، وسيُضعف دروها الحالي، بحيث تتحوّل إلى لقمة سائغة أمام القوى الطامعة بالمنطقة والعاملة للسيطرة عليها وإعادة رسم خرائطها.

المصدر: العربي الجديد.

الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".