إياد الدليمي
تعلّمنا السياسة كل يوم أن لا شيء يحصل مصادفة، وأن ما يجري
اليوم هو ما كان مخطّطا له قبل سنوات، وربما قبل عقود، وليس ذلك بالأمر المخفي أو الغريب،
فالدول العظمى دول مشاريع وليست دولا عابرة، فالمحافظة على تفوّقها تتطلب التخطيط والتخطيط
المستمرّ، سمّه ما شئت، تآمراً أو استراتيجية، ولكن هذا واقع الحال، فكما يقول مؤلف
كتاب "الحكم بالسر"، جيم مارس، (2003)، إن لا شيء يحدُث مصادفة في السياسة،
فكل ما يمكنك أن تراه مخطّط له أن يحدُث بهذا الشكل.
سعت حركة حماس وذراعها العسكري، كتائب الشهيد عزّ الدين القسام،
في 7 أكتوبر، إلى محاولة ضرب مخطّط يجري الإعداد له منذ عقود، بعضه معروف وبعضه الآخر
مخفيّ. وهذا، في تقديري، يجيب عن تساؤلات بعضهم بشأن السبب الذي دفع "حماس"
إلى خوض هذه المعركة "غير المتكافئة"، ويذهبون إلى الاعتقاد أن تحرير الأسرى
الفلسطينيين لا يستوجب كل هذه التضحيات، متناسين أن عملية التبادل، إن حدثت، حادث عرضي
في خضم معطيات كبرى امتلكتها "حماس"، ودفعت بها إلى خوض هذه المعركة البطولية
(طوفان الأقصى)، دفاعا عن القضية الفلسطينية أولا، ومواجهة خطط تذويبها، وأيضا دفاعا
عن الوجود العربي ككل.
ترجم، في العام 1982، داعية السلام اليهودي والمعارض للصهيونية
إسرائيل شاحاك وثيقة مهمة عرفت باسم "الحصاد" (كيفونيم بالعبرية)، تتضمن
تفاصيل مخطط إسرائيلي لمواجهة العالم العربي المتفوّق عليها ديمغرافيا، والذي يزخر
بموارد كثيرة، ناهيك عن تحقيق الحلم التوراتي، كما يقولون، بإقامة دولتهم من النيل
إلى الفرات.
تقوم الخطة على رغبة إسرائيل بتقسيم الدول العربية ابتداءً
من العراق، فهذا العالم العربي، وفقا لتلك الوثيقة، قائم على معطياتٍ عديدة تجعل من
تجزئته وتقسيمه أمرا سهلا وممكنا، خصوصا في ظل الانقسامات العرقية والدينية والطائفية
التي تنخر في جسد تلك الدول، والتي فشلت حكوماتها، منذ صنعتها فرنسا وبريطانيا، في
ردم هذه الفجوات ومعالجتها.
يمكن الآن اعتبار أن ما حصل بعد 7 أكتوبر كان بمثابة الفرصة
التي رأى فيها دهاقنة تل أبيب أنها باتت مواتية لتحقيق هذا الحلم من خلال شنّ حرب انتقامية
للثأر لكرامة الجيش الذي لا يقهر، التي مرّغها القسّاميون في وحل الهزائم، والمضيّ
في تحقيق أحلام الحركة الصهيونية العالمية.
كان النظام الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، منسجما مع كل
الإجراءات التي اتخذتها تل أبيب لاستعادة صورة دولة الكيان، ولم يدّخر لا مالا ولا
جهدا ولا إعلاما من أجل ذلك، مستفيدا من هيمنة أميركية حتى على المنظمّات الأممية والدولية
التي جرى تعطيل حتى لغة الكلام في بعضها في حين كان الفيتو الأميركي بالمرصاد لكل قرار
أممي يدعو إلى وقف الغزو والعدوان وحرب الإبادة التي شنّتها تل أبيب.
بعد أكثر من 70 يوما، فشلت حكومة اليمين المتطرّف في تحقيق
أي شيء مما وعدت به أو سعت إليه، فلا هي قضت على "حماس" ولا هي حرّرت أيا
من أسراها لدى القسّام، ولا هي سيطرت على قطاع غزّة، بل حتى الأهداف المخفية وغير المعلنة
من تهجير أهالي القطاع بعد حملة قصف وتجويع شرسة لم تتحقّق، فما كان من النظام الدولي
بقيادة أميركا إلا أن بدأ يتراجع عن دعمه المفتوح لهذه الحكومة، وهو ما أعلنه صراحة
الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم أن دعا إلى تغيير الحكومة الإسرائيلية.
ليست أميركا وحدها، بل معظم الدول الغربية التي دعمت حكومة
اليمين الإسرائيلي المتطرّفة وساندتها بدأت بسحب الدعم، وإنْ بدرجات متفاوتة، فهي لم
تعد قادرة حتى على مواجهة شارعها الذي بدأ يغضب من هذه المواقف الداعمة لإسرائيل، مع
توالي صور القتل الجماعي والإبادة التي تُمارسها، غير أن الغريب أن النظام العربي الرسمي
هو الوحيد الذي لا يبدو أنه يجيد اقتناص الفرص.
نعم، قد نفهم أن هناك أنظمة عربية ليست فقط ساكتة عمّا يجري
من حرب إبادةٍ على الغزّيين، وإنما متواطئة وداعمة لهذه الحرب، وهي التي كانت تُمنّي
النفس بأن تنجح حكومة نتنياهو في القضاء على "حماس"، ولكن حتى هذا التواطؤ
المكشوف يستدعي من تلك الأنظمة أن تعيد ترتيب أولوياتها، وأن تقتنص اللحظة المواتية
المتمثلة بصمود المقاومة وأهالي غزّة، وأن تعمل على تغييرٍ في بوصلة أهدافها ولو مرحليا،
غير أن شيئا من ذلك لم يحدُث للأسف.
تتحدّث وسائل الإعلام الإسرائيلية، وعديد من المحللين والخبراء
العسكريين الإسرائيليين، أن فرضية القضاء على "حماس" التي رفعتها حكومة الحرب
هدفا لها لن تتحقّق، وأن "حماس" ما زالت متماسكة، بل وقادرة على أن توقع
مزيدا من القتلى في صفوف القوات الإسرائيلية، حتى أن "رويترز" عنونت أحد
تقاريرها الخبرية من غزّة بأن شوارع القطاع تحوّلت إلى كمائن للموت بالنسبة للجيش الإسرائيلي.
أمام هذا المتغيّر
الذي بدأ يفرض نفسه بعد أكثر من 70 يوما على بداية الحرب العدوانية على غزّة، وبغضّ
النظر عن مواقف تلك الأنظمة العربية من حماس، إلا أنه يجدر بها أن تعيد تفكيرها، ليس
من أجل تحريك جيوشها لإنقاذ غزّة وتحرير فلسطين، لا سمح الله، ولكن من أجل أمنها هي،
من أجل مستقبلها هي، من أجل أن تحصّن نفسها أمام القادم من مخطّطات تعمل عليها إسرائيل
وأميركا لتفتيت المفتّت وتجزئة المجزأ من جدول المنطقة.
الموضوع خطير،
واللحظة التي وفّرتها كتائب القسّام مواتية لمن يجيد أن يقرأها ويبني عليها، أما الوقوف
موقف المتفرّج حيال ما يجري في غزّة، ناهيك طبعا عن الموقف الداعم لدولة الكيان، فلن
يؤدّي إلا إلى مزيدٍ من التشرذم الذي سيصيب النظام العربي ودوله في مقتل، ولات ساعة
مندم.
المصدر: العربي
الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن رأي صاحبها ولا تعبّر
عن "آفاق نيوز".