وائل قنديل
في مارس/ آذار الماضي وفي ذروة الصمود
الفلسطيني بمواجهة العدوان على غزّة، زار عضو مجلس الحرب الصهيوني، بنيامين غانتس،
الذي يدلّلونه باسم "بيني" واشنطن، في لحظة خشونة عاطفية بين البيت الأبيض
ونتنياهو. في ذلك الوقت، انتعشت أوهام معسكر المطبّعين العرب في أن أميركا ضاقت ببنيامين
نتنياهو وقررت إزاحته، ووضع بنيامين آخر "غانتس" مكانه، للدفع باتجاه وقف
القتال والذهاب إلى صفقة تبادل كاملة.
وقتها، بدأ عرب التطبيع حملة شديدة
الوقاحة ضد المقاومة الفلسطينية، حمّلتها المسؤولية عن مأساة غزّة، وقاد هذا التوجّه
محمود عبّاس، الذي يسلك طوال الوقت معارضًا لنتنياهو، وليس رئيس سلطة فلسطين تنتمي
إلى مشروع تحرّر وطني.
الحاصل ونحن على بعد 40 يوماً تقريباً
من استدعاء واشنطن بنيامين غانتس لتوجيه رسالة إلى نتنياهو، صار الأخير أكثر سيطرة
على المشهدين السياسي والعسكري في الكيان الصهيوني، فيما بات غانتس أكثر امتثالًا لإرادة
رئيس الحكومة وأشدّ اقتناعًا برؤيته لإدارة الحرب، وذلك كما بدا في تصريحاته أمس وهو
يردد مقولات نتنياهو حرفيًا بشأن حتمية اجتياح رفح وتثبيت سلطة على هوى الاحتلال في
غزة، ومواصلة الحرب بكل وحشية على كل الجبهات لإخضاع المقاومة واستئصالها.
بحت أصواتنا تقول إن نتنياهو هو إسرائيل
الحقيقية، أو بالأحرى هو المشروع الصهيوني في أوضح حالاته وأصدقها. هو في واقع الأمر
التعبير الأمثل والتعريف الجامع المانع لأن يكون الشخص صهيونيًا، كونه يجسد بوضوح أهداف
وتطلعات الكيان كله، بمختلف درجات ألوانه، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
يتحدث نتنياهو الآن مستعيدًا لحظة تأسيس
الكيان المحتل قبل النكبة الأولى عام 1948 معلنًا أنه جاء لتصحيح خطأ الأجداد والآباء
المؤسسين، وهذا الخطأ من وجهة نظره أنهم لم يقتلوا الفلسطينيين بالقدر اللازم، ولم يبعدوهم من أراضيهم
بالحد الأقصى من الأعداد، ولم يحرقوا الجغرافيا ولم يمحوا التاريخ بما يكفي، وها هو
يفعل الآن.
في فبراير/ شباط من العام الماضي، كتبتُ
تحت عنوان "المستوطنون يصحّحون كتابة تاريخ فلسطين": يعيد المستوطنون الصهاينة،
لا المؤرّخون العرب الجدد، كتابة تاريخ فلسطين على الوجه الصحيح، ويسقطون قشرة الأوهام
التي يضعها إعلام العربية على غلاف الرواية لصياغة وعي الأجيال الجديدة.
كان ذلك لمناسبة إقدام مجموعات من المستوطنين
الصهاينة على مهاجمة بلدة حوارة وقرى فلسطينية أخرى جنوبي مدينة نابلس، الأمر الذي
يعيد الصراع على فلسطين إلى جذوره في بدايات القرن الماضي: عصابات من اللصوص الغرباء
القادمين من الخارج يهجمون على أراض ومنازل لانتزاعها بالقوة من سكانها الأصليين وطردهم
منها واتخاذها وطنًا وسكنًا لهم.
من هنا فإن محاولة الواهمين العرب تصوير
نتنياهو وحكومته اليمينية جناحًا متطرفًا في الكيان الصهيوني، بينما الآخرون معتدلون،
نوع من الكذب على الذات والتدليس على الجماهير، ذلك أن عقيدة الإبادة والمحو والاقتلاع
متجذرة في الصهاينة، علمانيين ومتدينين.
وعلى ذلك، يبقى تسويق مقولات من نوعية
إمكانية التعايش والتطبيع وحل الدولتين نوعًا من إسباغ الشرعية على الاحتلال، وضربًا
من الخذلان والتخلي، ليس عن فلسطين فقط وإنما عن مجموع الدولة العربية، التي سيأتي
دورها مع تمكن المشروع الصهيوني على إنجاز حلمه من النهر إلى البحر.
تقول المؤرخة الفرنسية اليهودية ذات الأصل التونسي، صوفي بيسيس:
"سؤال شرعية إنشاء دولة إسرائيل ليس محرما عندي. إقامة إسرائيل لم تكن أمرا مشروعا،
لأن أوروبا أجبرت الفلسطينيين على دفع ثمن جريمتها هي وألقت بعبئها اليهودي عليهم،
ولا علاقة لهم بما حدث في حقهم على أرضها هي.. التاريخ أثبت أن الفلسطينيين لن يتخلوا
عن أرضهم مهما صار، وسيظلون يقاتلون ويقاتلون".
متى يفهم معسكر الدجاج العربي الذي
يصيح بأوهام التطبيع هذه الحقيقة؟ ومتى يكون الحكّام العرب ممثلين حقيقيين للشعوب العربية
كما يمثل نتنياهو الشخصية الإسرائيلية على الوجه الحقيقي؟
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".