مالك ونوس
حرب وجود، وصراع وجود. عبارتان لازمتا
الصراع العربي الإسرائيلي منذ سبعة عقود. وإذ غابت العبارتان عن الاستخدام في الخطابات
السياسية والتحليل السياسي لأهل المنطقة العربية، في السنوات الأخيرة، بفعل تراجع وزن
النضال العربي والفلسطيني لصالح التقدم المضطرد للمشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة،
إلا أن معركة طوفان الأقصى، التي انطلقت في الـ7 من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)،
وردّة فعل الغرب غير المسبوقة عليها، ثم شكل الحرب الجديدة التي تشنّها دولة الاحتلال
الإسرائيلي، بدعم من الغرب، على قطاع غزّة، دفعت جميعها كثيرين إلى استنتاج أن هذه
الحرب باتت حرب وجودٍ بحق.
ومن سخريات القدر أن الطرف القوي في
هذه المعركة، دولة الاحتلال، هو أول من قدّر أن المرحلة الحالية، والحرب الدائرة على
أرض غزّة وعلى أهلها، هي حرب وجود. فقد قال وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد
أيام من عملية طوفان الأقصى والحرب التي شنّها جيش الاحتلال على غزّة: "نخوض حرباً
وجودية". ولو قالها عربي أو فلسطيني لصنّف كثيرون كلامه في إطار اللغة الخشبية.
ولكن لدى النظر إلى كلام غالانت، وما تبع عملية طوفان الأقصى من تهافت قوى الاستعمار
القديم على دولة الاحتلال، واستقدام الأساطيل الحربية الغربية وحاملات الطائرات لحمايتها،
يشير إلى أن كلام غالانت ليس سوى تحذير أطلقه هو، بينما العرب هم أكثر من يجب أن يتمعّن
فيه.
لماذا صنّف الإسرائيليون هذه الحرب
حرباً وجودية، على الرغم من أنهم شنّوا قبلها حروباً كثيرة ودورية على العرب والفلسطينيين؟
لم يكونوا ليصنّفوها حرباً وجودية لو لم يتأكدوا أن من ظنوهم قد فقدوا أي أملٍ وباتوا
عاجزين عن أخذ زمام المبادرة في الصراع القائم، قد أصبحوا قادرين على الفعل والمبادرة،
وليس على ردّ الفعل كما عهدوهم طوال السنوات والعقود السابقة. وكانت مبادرتهم من القوة
إلى درجة أنهم فاجأوا الجميع بعملية طوفان الأقصى العسكرية التي نفّذوها بدقةٍ ودرايةٍ
وكفاءةٍ غير متوقعة خلف خطوط العدو. ولم يكونوا ليقولوا ذلك سوى بسبب الرمزية التي
تمثلها عملية اختراق المقاومين الفلسطينيين حدود قطاع غزّة، ويتوغلوا في الأراضي الفلسطينية
التي تحتلها دولة الاحتلال لأول مرةٍ من 70 سنة، وتقيم عليها مستوطناتٍ يشغلها إسرائيليون،
ويدمّروا آلياتهم ويدكّوا مواقعهم العسكرية، ويمرّغوا أنوف قادتها وأفرادها بالتراب
ويكسروا هيبتهم، ويغنموا أسلحةً وأسراراً عسكرية وأرشيفاً وتسجيلات، ويتمكّنوا من أسر
جنود ومدنيين، ويعودوا بهم إلى القطاع سالمين، مسجّلين انتصارات على الجيش الذي يقدّم
نفسه الأقوى في المنطقة، والذي لا يُقهر. لقد رأوا أنها عملية من الخطورة إلى درجة
أنها تحاكي معركة التحرير الكبيرة المأمولة، والتي يحلم العرب بخوضها لإنهاء الاحتلال
الإسرائيلي أرض فلسطين التاريخية، وطرد اليهود منها إلى الأبد، تحقيقاً للحلم القديم:
"فلسطين من النهر إلى البحر".
ولم يتألم الإسرائيليون وحدهم من معركة
طوفان الأقصى، بل شعر بالألم قادة دول غربية كانت، حتى وقتٍ قريب، تردّد أنها تخلت
عن إرثها الاستعماري، وأنها تحترم إرادة الدول المستَعمرة في تقرير مصيرها. لكن ردّة
فعلها أثبتت أنها لا تزال تنظر إلى أي عملية تحرّر وطني أنها تهديد من الشعوب المستَعمرة
للدول التي كانت يوماً تفرض سيطرتها واستعمارها مباشرة عليها على أنه تهديدٌ وجودي،
على الرغم من أن الواقع يُظهر أنها لا تزال تفرض عليها استعماراً جديداً بأشكالٍ شتّى،
بعضها واضح وبعضها مستتر. ولنا على هذا الأمر مثالٌ في فرنسا التي لا تزال تنظر إلى
الدول الأفريقية المستقلة أنها مستعمرات تابعة لها. ولنا في جولات رئيسها، إيمانويل
ماكرون، على بعض الدول التي كانت تحت احتلال بلاده، ومنها لبنان والمغرب، وتجوّله في
مناطق لبنانية بعد انفجار مرفأ بيروت سنة 2020، ورغبته بزيارة مناطق زلزال المغرب قبل
أشهر، من دون دعوةٍ رسمية، دليل على أنها ممارسة استعمارية موصوفة. ومن هذا المنطلق،
يبدو أن هذا الغرب وقادته أيضاً قد رأوا في معركة طوفان الأقصى، والحرب التي شنّتها
دولة الاحتلال على غزّة، إثر تلك المعركة، حرباً وجودية. ولذلك تقاطر قادة الغرب، بالتتالي،
إلى دولة الاحتلال للتضامن مع قادتها، والاستماع منهم إلى الرواية الإسرائيلية التي
تبنّوها من دون أن يتبيّنوا صحّتها، وتعهّدوا بتقديم الأسلحة وكل ما يلزم للإسرائيليين
للانتصار في هذه الحرب، بغضّ النظر عما تسبّبه أسلحتهم من مجازر ارتكبت وسترتكب بحق
المدنيين الفلسطينيين.
ولم تصل الحرب الوجودية إلى مرحلة متقدّمة
الآن فقط، بل يمكن القول إنها قد أخذت المنحى الجدّي الذي لا رجعة عنه لتصفية القضية
الفلسطينية، قبل حوالي أربع سنوات، مع صفقة القرن التي كانت بمثابة التحدّي الأكبر
الذي واجه هذه القضية يومها، والذي كان واضحاً أنه يهدف إلى تصفيتها. وقد جاءت تلك
الصفقة ثمرة تحالف اليمين المتطرّف الإسرائيلي مع اليمين الشعبوي الأميركي ممثلاً بالرئيس
الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أخذ على عاتقه أمر الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة
الكيان، والاعتراف بضمّها مرتفعات الجولان السورية، إضافة إلى إسقاط حقّ العودة الذي
يعدّ من أهم القضايا التي يجب البتّ فيها لدى حل القضية الفلسطينية. وكان المحور الأخطر
في تلك الصفقة تلازمها مع تمرير اتفاقات أبراهام للتطبيع بين دولة الاحتلال وبعض الدول
العربية، والذي إن لم يضرّ الفلسطينيين، فإنه قد ضخَّ دماءً جديدة في عروق هذا الكيان،
عبر تخفيف مخاوفه عن طريق تحييد دول أخرى وإخراجها من حلقة الصراع بين الإسرائيليين
والعرب.
ومن الواضح أن قادة العدو لم يقيموا
وزناً لأصدقائهم العرب، وللمواقف التي قد يتّخذونها تجاه دولة الاحتلال، قبل أن يشنّوا
هذه الحرب، وبعدما شنّوها وارتكبوا المجازر خلالها. وبناءً على هذا الواقع، ليس مستبعداً
أن يستهدفوا هذه الدول، إن أبدت معارضة مقرونة بدعم تقدّمه لأهالي غزّة، ويصنفوها دولاً
معادية. وقد وصل بهم الاستهتار بالعرب إلى درجة أنهم لم يفكّروا بمواقف حلفائهم العرب،
أو ردّات فعلهم، عند طرحهم خطّة تهجير سكان غزة إلى سيناء إلى الأبد، وضم قطاع غزّة
إلى دولة الاحتلال، وتهجير أهالي الضفة إلى الأردن، وكأنهم على ثقةٍ بأن أي معارضة
لهذه الخطط لن يُقدم عليها قادة هذين البلدين. نعم إنها حرب وجودية بالنسبة للإسرائيليين،
وقد أكّد ذلك رئيس حكومتهم نتنياهو قبل أيام، حين قال: "كان هنالك فشل كبير، وبعد
الحرب على الجميع أن يقدم إجابات، لكن الأولوية الآن لإنقاذ الدولة"، فهو هاجس
الخوف من نهاية "إسرائيل"، ذلك الذي دفع قادتها إلى شنّ الحرب لإنقاذها من
الزوال. كما أنها حرب وجودية بالنسبة للعرب والفلسطينيين. فماذا أعدّ العرب لهذه الحرب،
التي قال عنها غالانت بعد عشرين يوماً من قصف غزة وقتل سبعة آلاف من أبنائها:
"هذه حربٌ طويلة، حربٌ لا خيار فيها، إما نحن أو هم"؟
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".