طوني عيسى
يدأب
سياسي «عتيق» على القول في مجالسه: ساذجٌ مَن يعتقد أنّ لبنان سيعود إلى صيغة الطائف.
فكل ما يجري اليوم هو محاولة هادئة حيناً، وصاخبة أحياناً، للالتفاف على الاتفاق وتبديله.
أياً
تكن الصورة التي ستبلورها المفاوضات التي يجريها الأميركيون والسعوديون حالياً مع طهران،
فإنّ النفوذ الإيراني بات أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه على رقعة الشرق الأوسط بكاملها.
ولذلك، سيتقاضى الإيرانيون أثماناً باهظة مقابل انخراطهم في التسويات الإقليمية والدولية.
وتبدو
إدارة الرئيس جو بايدن مستعدة دائماً لمراعاة طهران كلاعب إقليمي نافذ، وهي لذلك لم
تغضب من المملكة العربية السعودية لتفاهمها مع الإيرانيين، ولكن كان لها «عتب» على
المملكة بسبب الذهاب إلى بكين وعقد الاتفاق هناك برعايتها.
بعض
الخبراء يتحدثون عن توازن استراتيجي سيتحكّم بمستقبل الشرق الأوسط، قوامه قطبان أساسيان:
إسرائيل وإيران، وفي المحاذاة تحاول تركيا بناء نفوذها في آسيا الصغرى. وفي ظلّ هذه
الوقائع، يحاول العرب بناء قطبية موازية في الشرق الأوسط، وكان يمكن أن تكون لمصر.
لكن القيادة السعودية الجديدة تبدو متحمسة، وبخطى حثيثة، لتحقيق هذا الهدف. وما تردّد
في الأيام الأخيرة عن رغبة المملكة في الحصول على برنامج نووي للأغراض السلمية، مقابل
أي سلام مع إسرائيل- إذا كان ذلك صحيحاً- ربما يصبّ في هذا الاتجاه.
لكن
هؤلاء الخبراء يعتقدون أنّ الشرق الأوسط سيبقى في المدى المنظور، وحتى بروز اي قوة
عربية، تحت نفوذ قطبيات غير عربية: إسرائيل وإيران، وإلى حدّ ما تركيا.
ومن
الواضح أنّ طهران سترسم مستقبل العديد من الدول العربية الواقعة في ما يسمّى «الهلال
الشيعي» الممتد من حدودها حتى الشاطئ الشرقي للمتوسط، أي العراق وسوريا ولبنان، فيما
هي تساوم الخليجيين في اليمن وتذكّر إسرائيل بأنّها موجودة في غزة. وقد تجري إيران
مقايضات في أماكن كثيرة، لكنها لا تبدي أي استعداد للتنازل في الدول العربية التي تتحكّم
اليوم بقرارها. وفي لبنان هناك اتجاه إلى تكريس النفوذ الذي يتمتع به حلفاء إيران في
هيكلية الدولة والنظام والمؤسسات، بحيث يصبح متعذّراً إضعافه.
لذلك،
يعمد حلفاء إيران إلى أسلوب القضم التدريجي للمؤسسات، ما منحهم القدرة على التحكّم
بالقرار. ومن الواضح أنّ الفترات المقبلة من الأزمة ستشهد تعميقاً للسيطرة على مفاصل
السلطة، وتتويج ذلك بعقد مؤتمر تأسيسي ينتهي بعقد سياسي جديد يعيد تمركز القوة بطريقة
تختلف عن تلك التي أرساها اتفاق الطائف.
كان
الطائف وليد تقاطعات إقليمية ودولية ومحلية، في العام 1989، تبدّلت اليوم تماماً. فقد
كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على وشك أن تنتهي. وكان
السوريون يمسكون بأوراق قوية في الشرق الأوسط، ولاسيما في أزمتي لبنان والفلسطينيين.
وكانت تربط السوريين شبكة مصالح بالمملكة العربية السعودية، ما سمح ببروز ظاهرة الرئيس
رفيق الحريري الذي اضطلع بدور الوسيط ثم المموّل. وتمكنت المملكة من استيلاد الاتفاق
بين اللبنانيين على أرضها، في الطائف.
وهذه
التغطية الإقليمية والدولية فرضت تنفيذ الاتفاق على رغم اعتراضات علنية ومكتومة في
الداخل اللبناني. ففيما كان السنّة يدعمون الاتفاق لأنّه راعى مصالحهم وحظي بمظلة سعودية،
جاء ردّ الشيعة عليه بارداً ومرتكزاً إلى ضمانة دمشق التي جرى تلزيمها التنفيذ. وأما
المسيحيون فانقسموا بين من اعتبره أفضل الممكن، والعماد عون الذي أشعل الحروب رفضاً
له.
في
الواقع، أخذ السوريون على عاتقهم بناء «دولة الطائف»، ولكنهم فعلوا ذلك وفقاً لما يناسبهم،
فجاء التنفيذ استنسابياً. وعندما كانت الطوائف تختلف على تفسير الطائف، كان السوريون
يسارعون إلى إطفاء الخلافات باستخدام نفوذهم وفرض التسويات بالقوة وليس بإزالة الالتباسات.
وفي العام 2005، عند خروجهم من لبنان، اعتقدت كل طائفة أنّ اللحظة قد حانت لـ«تصحيح»
الخلل والحصول على مكاسب أكبر. وهكذا، «فات الجميع بالجميع» ووصل الوضع إلى نقطة الدوران
العبثي في الفراغ، كما هو اليوم.
ولكن،
ذات يوم، ستتوصل القوى الخارجية المعنية بالملف اللبناني، وهي عملياً لجنة لقاء باريس
الخماسي وإيران، إلى تسوية جديدة يتمّ إملاؤها على اللبنانيين. فهذه التسوية ستصل إلى
لبنان جاهزة وموضّبة، وليس مسموحاً الاعتراض عليها أو إفشالها. والأسوأ، قد يتمّ تكليف
راعٕ معين بتنفيذها ميدانياً كما تمّ تكليف دمشق في الطائف.
هذه التسوية لم يحن أوان نضجها حتى
الآن، لكنها ستكون بديلاً من الطائف المترهل، وستسمح بعقد سياسي جديد. وعلى الأرجح،
ستكون إيران هي الأقوى فيه، لأنّ الاتفاقات والمعاهدات تعكس دائماً موازين القوى القائمة.
وفي الانتظار، يتمّ تجهيز الأرضية بالسيطرة على المواقع والمؤسسات، الواحدة تلو الأخرى.
المصدر: الجمهورية.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".