عيسى الشعيبي
كان السؤال أعلاه محلّ أخذ ورد طوال
السنوات الطويلة الماضية، بين من يقول إنّ الرياضة هي مجرّد لعبة، فردية أو جماعية،
منزّهة عن أي غاية أخرى، هدفها الترويح عن النفوس وإمتاع الناس كافة، ومن يجزم أن معطف
الرياضة يُخفي تحته قميصاً سياسياً خفيفاً، لا تراه سوى العيون حادّة البصر، الأمر
الذي كان يضع هذه المسألة الخلافية موضع نقاش معتدل الوتيرة، وسجال لا يشتدّ إلا في
بعض المناسبات، سيما عند المنافسات الدولية بين الفرق الكروية أيام الحرب الباردة،
وربما قبل الحرب العالمية الثانية، حين وضع الزعيم النازي أدولف هتلر فوز المنتخب الألماني،
في ثلاثينيات القرن الماضي، في صدارة اهتماماته، للبرهنة على تفوّق العرق الجرماني.
اليوم، وبعد أن أسدل مونديال قطر ستارته
(قل مونديال العرب بلا تردّد) على أفضل نسخة في تاريخ كأس العالم، يمكن القول إن جرعة
السياسة بدت أكبر من ذي قبل في هذا المزيج الرائق من الشراب الذي تناوله مئات الملايين
من البشر، واستمتعوا به نحو شهر من المباريات الكروية بمفاجآتها المدهشة، حيث حضرت
شواهد كثيرة دالّة على رجحان كفّة السياسة على كفّة الرياضة، أو على الأقل التعادل
معها، حيث كانت في المقدمة منها تلك الحملة التحريضية الأوروبية ذات النفَس العنصري،
والتي سبقت المونديال واشتدّت عشية افتتاحه، في إشارة لا تُخطئها عين المراقب الموضوعي
على وجود المتلازمة غير الخفية بين كل من الرياضة والسياسة.
لكثرة الشواهد والدلائل والقرائن على
حيوية معامل الارتباط بين هذين المكونين المتفاعلين في بحر العواطف الإنسانية، يصعب
على هذه الزاوية محدودة المساحة حصرها، غير أنه يمكن بسهولة نسبية التقاط شواخص عديدة
بارزة على مدى شدّة حضور السياسة داخل المدرجات بين المشجّعين، وأمام الشاشات بين المتفرّجين
بحماسة مفرطة، حيث أدّى هذا المونديال، مثلاً، إلى إيقاظ مشاعر عربية مشتركة كانت في
حالة سُبات مديد، كما أوجد عبور الفريق المغربي إلى المربع الذهبي حسّاً عربياً جارفاً
بالاعتزاز من الخليج إلى المحيط، أساسه شعور قومي جامع، رأى في "أسود الأطلس"
بحقّ فريقاً يخصّ العرب كافة، وليس أدلّ على ذلك من الاحتفالات التي عمّت معظم المدن
العربية، احتفالاً بهذا الإنجاز الكروي غير المسبوق.
يحتاج الأمر أكثر بكثير من تسجيل بعض
انطباعاتٍ سريعةٍ عمّا حفل به مونديال قطر من مشاهد مختلفة، لتبيان هذه الشراكة المتينة
بين الرياضة والسياسة، وسبر أغوار هذه اللعبة في وجدان الأمم والشعوب، وفهم كل هذه
الانفعالات المصاحبة لتسجيل هدفٍ في مرمى الخصم، أو تحقيق فوز عليه، وهو ما نلقي بمسؤوليته
على كاهل علماء الاجتماع المؤهلين لدراسة هذه الظاهرة السيكولوجية، وتعليلها لعامّة
الناس بصورة منطقية، بما في ذلك سبب استقطاب لعبة كرة القدم كل هذه الشعبية التي لا
تُجارى، وعلّة ترقبها بلهفة شديدة من سائر الأعمار في مختلف الأنحاء، ناهيك بالوقوف
على الدوافع الذاتية التي تحمل آلاف المشجّعين على الانتقال من قارّة إلى أخرى لتشجيع
الفرق المتنافسة.
ولعلّ الإجابة عن السؤال في العنوان
أعلاه تكمن في طرح سؤال آخر، مفاده كم هي جرعة السياسة المبثوثة، على سبيل المثال،
في حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباراة فريق بلاده مع الفريق المغربي، ثم المباراة
النهائية (وكان قد فعلها في مونديال روسيا قبل أربع سنوات)، إن لم يكن هناك ما هو أكبر
من مجرّد لعبة كرة قدم، جوهرها تطلّع وطني، لتعزيز مكانة الأمة الفرنسية، جلاء صورتها
ورفع سويّتها الأدبية والسياسية؟ ثم ما الذي جعل الإعلام الرسمي الجزائري يتجاهل الإنجاز
المغربي الباهر، ولا نقول لم يحتف به، على نحو ما كان عليه الحال في سائر الدول والحواضر
العربية، إن لم تكن الخصومة السياسية، وحدها، السبب في ارتكاب هذا الخطأ الذي يخصم
من رصيد بلد المليون شهيد، ويضيف جرحاً جديداً في مبنى العلاقات غير الإيجابية بين
البلدين العربيين المتجاورين؟
قد لا تُقدّم هذه المطالعة السريعة
إجابة شافية عن السؤال المطروح بعد انتهاء فعاليات مونديال قطر على خير ما يرام، عما
إذا كانت الرياضة والسياسة صنوين لا يفترقان (وجهين لعملة واحدة) إلّا أنّها تُقدّم
مساهمة متواضعة في إثراء نقاشٍ لا ينتهي عن تلك الصلة اللامرئية بين لعبة الرياضة التي
تجري في الهواء الطلق وألعاب السياسة التي تُجرى في الغرف المغلقة.
المصدر: العربي الجديد.
الآراء الواردة في المقال تعبّر عن
رأي صاحبها ولا تعبّر عن "آفاق نيوز".